الحق على الشعر

   علاقتي بالشاعر الغريب زين الحسن علاقة مميزة، كونها مبنية على صخور المحبة الصادقة، رغم فارق السن الذي بيني وبينه، هذا اذا قيس عمر الشاعر بعدد سنيه!، لأن الشاعر، بنظري، حتى ولو غزا الشيب مفرقيه، ودبّت الرجفة في عروقه، يبقى ينبوع شباب دائم، طالما أن هناك قلباً يخفق، وعيناً تدمع، وحبيباً يولد مع ولادة كل بيت من ابياته الشعرية.
   وأنا ما كتبت مقالي هذا لأشرح لكم نظرية جديدة أو فلسفة عتيدة، بل لأقص عليكم ما حصل لي مع الشاعر الغريب وكامل المر.
   ذات يوم، قررت والشاعر الغريب القيام بزيارة صديقنا المشترك كامل في بيته الكائن في منطقة "بلاكتاون" التي تبعد عن منطقة "ماريلاندز" مكان اقامتي، قرابة عشر دقائق بالسيارة، وبالطبع، فهذه ليست المرة الاولى التي ازوره بها، بل أن "دواليبي بريت" لكثرة ذهابي وايابي من والى بيته، ولكن المعادلة تغيّرت تماماً عندما صعد الشاعر الغريب الى جانبي، وبدأ يسمعني، أثناء الطريق، بعضاً من قصائده.
   وكشاعر مسكين تسحره الصور الشعرية، وتسكره بخمرها المعتق الى حد الدوخان، تاه عن بالي مفرق "بلاكتاون" اللعين، فتابعت سيري باتجاه الجبال الزرقاء.   والشاعر الغريب يتابع بدوره الالقاء بطريقة مدهشة، وكأنه تعمّد في تلك الليلة أن يختار أروع ما جادت به قريحته الفياضة:
بلادي الحولوكي لبوز مدفع
وعليكي تآمروا حتى يذلّوا
الأرز اللي على جبالك تربّع
قبل آدم ما كوكبنا وصلّو
   والحقيقة أقول بانني لم أشعر اطلاقاً بضياعي إلا حين توقّف شاعرنا عن الالقاء، وسألني باستغراب:
ـ أين نحن الآن يا شربل؟
   فأفقت مذعوراً من غيبوبتي الشعرية وقلت:
نحن، نحن، العمى..
ـ ما بك؟
صاح والدهشة تعلو وجهه.
ـ ضعنا يا زين..
ـ يا ساتر.. ما العمل؟
ـ العمل.. أن تتوقّف حالاً عن إلقاء الشعر، حتى أعرف كيف أرجع.
ـ وما دخل الشعر بالموضوع؟
ـ شعرك أضاعني، أسكرني، نقلني الى دنيا مثالية عكس هذه الدنيا التافهة الوسخة التي لم يعد بمقدورك أن تصاحب انساناً فيها، مخافة أن يطعنك بظهرك، متى سنحت له الفرصة، ولا أن تربي ولداً لأنه سيطلع عاقاً، مهما قدمت له، وتعبت من أجله، ولا أن تغرم بمخلوق من مخلوقاتها، نظراً لخساسة نفسه، وشيمة الغدر التي يتصف بها.
   أجل يا زين، المادة أعمت بصيرة الناس، وها أنت ترجعني طفلاً صغيراً، يسرح ويمرح فوق مروج شعرية خضراء، لم تلطخها أرجل بشرية بعد. فبربك قل لي على من تقع مسؤولية ضياعي الآن؟
ـ عليّ وعلى شعري بالطبع.
ـ اذن، من الواجب عليك ان توصلني الى بيت كامل.
ـ أنا، أنا أوصلك الى بيت كامل؟!، معاذ الله، الأفضل ان يصلي كا واحد منا على دينه، لأن نومتنا ستكون بالسيارة.
   لحظات مرت، والشاعر الغريب غارق بصمت عميق، أين منه صمت "أبي الهول"، فغيّرت اتجاهي وعدت من حيث أتيت، بعد أن سرق منا الضياع قرابة ساعة من الوقت، تأخرنا بها عن موعدنا المحدد مع كامل المر، الرجل الطيب، الذي ينعتونه بالمرارة ظلماً، وهو يكاد يذوب لشدة "حلاوته"، كيف لا، وقد وجدناه ينتظرنا بالشارع العام على احر من الجمر، لدرجة انه اندفع نحو السيارة قبل ايقافها، وهو يصيح:
ـ ماذا أصابكما؟ اتصلت بالبيت، قالوا: تركا منذ ساعة وأكثر. أين كنتما؟ تكلما.
   فأجبته ببرودة زائدة، والشاعر الغريب يتطلع بي ويضحك:
رحنا برحله مهمه كتير
فيها شفاف وفيها خدود
وكان معنا تنين فرافير
يخزي العين عيونن سود
وكيف بدّك عَ البيت نعود؟
   فانفرجت اسارير كامل بعد عبوس شديد، وأخذ يرندح بصوت منخفض:
هنيّال اللي عندو رفيق
ما بينساه بوقت الضيق
أما الـ بيرافق شعّار
الأكل بتمّن ليل نهار
مأكد رح يبقى عَ الريق
مجلة الوفاق، آب، ايلول، 1986
**