ألبيرحرب في بيت من ورق يحرق أصابعه ليضيء ظلمات الآخرين

   يقول الشاعر الفرنسي الكبير (بول فاليري1): "للشعر في الافهام معنيان، اولهما مجموعة العواطف والانفعالات التي تهيجها في نفوسنا احداث الزمن، ومجالي الطبيعة، ومعاني الوجود، والوان الحياة. فنقول: منظر شعري، وظرف شعري. وثانيهما انه فن قائم، وصناعة عجيبة، يتناول الاهواء المشبوبة بالتنسيق والتأليف والجلاء، ثم يبرزها في لغة جميلة تطرب لها الأذن، ويهتز منها القلب".
   من هذا التحديد الواضح لمفهوم الشعر انطلق في دراستي هذه حول ديوان "بيت من ورق" للشاعر اللبناني ألبير حرب.
   لقائي الاول مع البير حرب كان على (شريط فيديو2) عندما سمعته للمرة الاولى يرتّل، اذا صح التعبير، هذه الابيات الشعرية:
.. وقت اللي كوّن هالوطن ألله
كمش طينه، وصار يتسلّى
من حلم ايدو صوّر بلادي
تزحط صابيعو جبال تتعلاّ
   فصرخت وقتئذ: رائع، رائع.. واخذت اصفّق له غير عابىء بما سيقوله عني الحاضرون. واذكر ايضاً كيف ان البير لم يترك لي مجالا للاعتذار، فصاح مجدداً:
بدّك تعمّر بيت وملبّك
صوّر ع ايدك لون من قلبك
وشقاع جرحك أبعد من اللمس
تا تصير شقفه من السما دربك
وعمّر الكلمه بيت حد الشمس
بتزغر تحت صابيعك بعلبك
   وللمرة الثانية يطير صوابي واصرخ بصوت عال: يا كبير يا ألبير.
   وبعد هذا اللقاء التلفزيوني العابر، علق هذا الاسم في نخيلتي، لدرجة اصبحت معها بأشد الشوق للحصول على الديوان الذي يحتضن بين صفحاته تلك الابيات الخالدة.
   وفجأة.. تحقق الحلم، فالتقيته صدفة في "بيت من ورق"، ويا له من بيت: الدفء يغمره، والزهر يزيّنه، والعصافير تحلّق في سمائه الصافية، مسيحة الله تعالى بتراتيل شعرية تتخطى حدود اللون والصورة:
سكوت الصخر لا تقول عنو موت
كل الدني تراتيل منسوره
يتحكي بتم اللون والصوره
وبتصير ألله لو بتزرع صوت
ومجرم اذا بتنبح عصفوره
   بهذا التصوير الانساني الرائع وضعنا البير امام خيارين لا ثالث لهما، اما ان نرتفع الى درجة الالوهية، واما ان نجر اذيال خيبتنا ونمشي، واعتقد جازماً ان هذه الابيات الشعرية لو وقعت بين المسؤولين عن حماية البيئة لترجموها الى عدة لغات، وعلقوها على مداخل الغابات والحدائق العامة، لانها تحمل بين طياتها صرخة شاعر فنان ملؤها الالم، لما حل بالطبيعة من تشويه باسم المدنية والعمران.
   ولكي يوضح لنا مدى اهمية الطير والزهر في حياتنا اليومية، نراه يربط مصيرهما بمصير الناس:
من نغمة الطير ال بيرف طلوع
بيعلق بادنك صوت وبتسمع
ومن زهرة ال فيها الحلا مشقوع
بتكمش بعينك لون وبتقشع
لكن ببيت العم يهزو الجوع
بتعطي الخبز للناس وبتشبع
   وكما نلاحظ، فإن الصورة عن البير حرب فريدة من نوعها، فما من شاعر سبقه الى استعمال (بتكمش) على هذا النحو، فهو قد اتى به من اللاشيء، وحمّله عظمة الرؤية التي لولاها لعاش الانسان في غيهب ابدي.
   اذا اردنا ان ندرك سر اهتمام شاعرنا بالطير، رمز السلام، والزهر، رمز المحبة والاخاء، وجب علينا التوغل أكثر فأكثر في عالمه الشعري الرحب، كي نكتشف مكنونات قلبه، عندئذ تتراءى لنا صورة الوطن الآمن الذي يحضن أبناءه، ويصهرهم في بوتقة واحدة، ليبني بذلك مجتمعه النموذجي الفريد:
أعلام شعبك عم تزوزقها
يا مجمّع الالوان خزّقها
بدك علم بيوحد الاحساس
بالوان ما في مجد يلحقها
رفاع الايادي البيض بين الناس
ورد النوايا السود وحرقها
   وليس هذا فحسب، بل اهتمام الشاعر بالزهر ينبع ايضاً من شوقه العميق لشفتي حبيبته الورديتين اللتين اذا قبلهما، فلسوف تتطاير احدى وريقاتهما نحو السماء لتبشر بولادة حب جديد:
عطيني شي بوسه للهوى تذكار
من تم وردو زغير بعدو زرار
تا يصير كل الحب عمرو زر
وراقو الحمر بشفتين زغار
وكلما التقيو شفافنا بيهر
وبتطير ورقه ع السما مشوار
   فاذا امتنعت عن اعطائه "بوسه للهوى تذكار" نراه يخاطبها، بغية اقناعها طبعاً، بكلام هو أقرب الى العتاب منه الى التهديد، شارحاً لها كيف أن النحلة ما وجدت أساساً إلا لامتصاص رحيق الزهرة:
عم تسأليني مين يسمحلي
عطر البعبّك ضل استحلي
عمري منو صبح او سهره
جناحي الشوق وهالعمر رحلي
وما دام انتي بها المرج زهره
لا تسألي شو بدها النحلي
   يتميز البير حرب عن غيره من الشعراء بالقدرة على اختراق الوحي، اي انه يستوحي الفكرة، ويرسم الصورة ساعة يشاء. وما تسميته لديوان "بيت من ورق" الا دلالة واضحة على سكنه القصيدة، وعلى تمكنه من الرسم بالكلمة:
حامل الريشه وعم تفيّق كون
وقف الزمان بعمرك الماشي
طيّر الكلمه المارقه من هون
ومرق صابيعك حط فيها لون
بيصير شعرك للدني فراشه
   وعلى انه الشاعر الوحيد الذي حث الشعراء الآخرين على امتطاء صهوة المجد والتحليق في الماورائيات، واستنطاق الجماد، وسكب الضوء فوق الحروف، لأن الشاعر بنظره لا يقل عن الخالق ابداعاً:
شاعر انت.. ع غير كون رحال
خلف الشمس هز الدني بوقفي
كنّك بشر ما فيك كلمه تطال
الله كتب نص القصيده وقال
كنك الاه بتكمل الشقفي
   خاصة اذا كان هذا الشاعر كما وصفه ابن بشري البار جبران خليل جبران3، "طائراً غريباً يفلت من الحقول العلوية، ولكنه لا يبلغ الارض حتى يحن الى وطنه فيغرد حتى في سكوته، ويسبح في فضاء لا حد له، ولا مدى مع انه في قفص".
   وبما انني أتيت على ذكر أحد أشهر أدباء المهاجر خاصة والعالم عامة جبران، أحب أن أنقلكم الى البرازيل، لنستمع الى الاديبة المعروفة أنجال عون4 وهي تتساءل: لماذا جئنا من التراب، ولماذا الى التراب نعود "تلقينا يد خفية في غمرات الوجود، فلا نجري فيها شوطاً قصيراً أو طويلاً، حتى تقبض علينا ثانية وترمي بنا الى ما وراء القبر".
   وأعتقد ان الشاعر ألبير حرب الذي لقب بشاعر الجالية في فنزويلا، قد أجابها على سؤالها الفلسفس هذا، بعد ثلاثين سنة تقريباً، بكلمات شعرية تحلق في عالم الخيال، لتخلق من الخيال وقعاً:
هالارض صوره مغبشي بانت
كمشة تراب لعمرنا عبرا
ومهما عيونك زغرت بكبرا
بكرا بترجع متل ما كانت
صابيع اله ونتفة الغبرا
   وبعد هذا كله اقول: ان القصيدة التي تنمو على يدي ألبير حرب تأخذ شكل الدائرة، التي لا بداية لها ولا نهاية، لأنها تجتاز مسافات الزمن، وتدفعك للرجوع اليها كلما اشتقت لذاتك.
الهوامش:
1ـ كتاب "من النقد الفرنسي" لللاستاذ محمد روحي فيصل، في سلسلة "اليقظة" التي كانت تصدرها دار اليقظة العربية، العدد 2 ص 9 طيعة 1043.
2ـ احدى حلقات ليالي لبنان.
3ـ من المقدمة التي كتبها جبران خليل جبران لديوان ايليا ابو ماضي "تذكار الماضي".
4ـ من كتاب "انجال عون اديبة وشاعرة" للاستاذ نعمان حرب، دار مجلة الثقافة، دمشق، ص 33.
**