إحدى رسائل الأب يوسف سعيد للشاعر شربل بعيني في كتاب رواد قصيدة النثر في العراق

قصة قد تكون ابعد من الخيال، ولكنها حقيقية، فلقد اتصل بي الشاعر أحمد ضياء الساكن في بلجيكا، وخريج جامعة بابل كلية الفنون الجميلة، ليخبرني ما يلي عبر الفايس بوك:

"مرحبا استاذي شربل..
قرأت يوم أمس رسالة الاب يوسف سعيد لك، في كتاب الصديق شاكر لعيبي "رواد قصيدة النثر في العراق" كانت في غاية الروعة.
دمت بخير ونقاء"
فما كان مني الا ان كتبت له:
"الف شكر يا اخي احمد، ولكن هل بالامكان تصوير الصفحة وتزويدي بها، وانا شاكر لك معروفك؟".
وما أن أجابني، حماه الله" بعبارة "بكل تأكيد" حتى وصلتني منه ثلاث صور من الكتاب، جمعت الصفحتين في صورة واحدة وتركت الغلاف وحيداً.
وللتاريخ أعترف بأنني لا أعرف أحمد ضياء المفضل علي بالصور والخبر، ولا شاكر لعيبي المفضل علي بنشر إحدى أشهر رسائل الأب يوسف سعيد لعبدكم شربل بعيني.
هذا هو الأدب الراقي الذي ينتقل من جيل الى جيل بعملقة ما بعدها عملقة.
هذا هو الأدب الحي الذي لا يموت رغم رحيل أصحابه، وها هو الأب الدكتور المرحوم يوسف سعيد يعيش من جديد في كتاب المبدع شاكر لعيبي، ويمنحني من حنوّه مجداً لم أكن أتوقّعه.
الصداقة الحقيقية هي أن لا تستغل أناساً أحبوك، فتمدحهم حين يغمرونك بمحبتهم، وتشتمهم اذا قرروا الابتعاد عنك بشرف.
الصداقة الحقيقية لا تشيب، ولا تموت، بل ستبقى حية في أذهان الناس، وكتبهم، ما بقي مخلوق على وجه الأرض.
ألف شكر يا شاكر، وألف شكر يا أحمد، ورحمك الله أيها الخالد أبد الدهر صديقي وقرة عيني الأب الدكتور يوسف سعيد.
واليكم الرسالة:
  5-7-1988
عزيزي شربل
تأخذك أحياناً دهشة الأشياء المرئية إلى امتدادات بعيدة وعميقة، وتتوارى وراء سجف لامرئية، وعندما تستيقظ لا تجد حولك في هذا العالم سوى (أنت)، وقصيدة قد كتبتها.
كيف تحرك أصابعك؟ وما لون الدم في أصابعك؟
كيف كان وضع دقات قلبك؟
أمور كلياً تجهلها من ذلك الانخطاف، وهذا الذوبان والامتداد المتشح كالضوء شعفات جبل، تأتي أفكارك مجسدة، إذ طالما أنت مصاب بحالات هذا الاختطاف والسقوط في اللاوعي، والانشلاح الكلي عبر دهاليزك المبطنة بدكنة الأسرار، والغموض، والاختفاء، والظهور.
أمور وحالات لا ندركها إطلاقاً، لكننا عندما نستيقظ نحس بهالات جديدة، وقبسات جديدة، ورعشات طارئة. إذاً لماذا لا تحمل مبدأ موهبتك وتكتب؟ إن هذا العالم لا يغذيه سوى قلم ثائر أصيل مثلك. فاكتب، ولتكن شجاعتك كشجاعة قديس أو نبي حاولوا طرده من المدينة، أصرّ على البقاء، فرجموه، فكانت دماؤه جسراً أبدياً للخلود.
أطالع رسالتك، وأقرأ ما كتبته عنك، وكيف شرّحتني فوق مقصلة الأدب أمام صاحب النيافة عبده خليفة، قبّل أياديه عوضاً عني، واطلب رضاه وبركاته.
كتبت آخر قصيدة بعنوان(حافات لأوقيانوس الرؤى) وهي طويلة نوعاً ما، مطلعها:
أستطيع أن أنصب شمعة لتكون صارية
قرب صخور البحار،
ضؤها يفتح أكثر من نافذة
في خاصرة العتمة.
ليتني قرأتها لك، حتماً سنلتقي في المربد التاسع، وعليك أن تراقب وتراجع دعوتك. هل لي أن أقول لك، مدفوعاً من حبي وغيرتي، والتأمل في مستقبلك، سترى ماذا ستفعل الآن. ماذا تكتب. ما ترسم، وكيف تسوح تلك البلاد القصية.
اتصلت مع جاد الحاج وهو في لندن، ووعدني بزيارة السويد، لكنه لم يفِ، معذور، أشغاله أوسع من امتداد البحر. بلّغه سلامي وأشواقي. وآمل في يوم ما أن نجتمع في بلادكم القصية، أنا وأنت وجاد، ونقرأ قصائدنا لباعة التفاح والرمان والسفرجل.
حتماً سأحمل معي ديواني الجديد إلى بغداد لطباعته هناك، وهو بعنوان (بهيموث والبحر)، أو سأختار ديواناً آخر. كثيراً ما أغضب من تلك الكتب فأمزقها، ومع هذه فهي كثيرة والحمد لله.
تحية إلى أدباء أستراليا الذين ترتبط معهم بأصرة، ونسين أن أقول لك أنني زرت إنكلترا للمرة الأولى، ونزلت ضيفاً على صلاح فائق، الشاعر والصديق جداً. كان دفء لندن يريحني، وهناك منعني أن أكتب، وقال لي: عليك أن تلتذ، ومع هذا كتبت أكثر من قصيدة، وستنشر الأولى في الدستور. أرجو أن تطلع عليها عندما تنشر. ما كتبه عني جاد لم ينشر بعد أيضاً.
أنهمك الآن في كتابة دراسة عن دواوين حميد سعيد، ويجب أن أنتهي منها قبل المربد التاسع.
آمل أن أسمع صوتك أيها العزيز مار شربل قديس أستراليا وطيورها الجميلة.
ودمت مع مودة الذي لا ينساكم
د. الأب يوسف سعيد
**