الجواهري والوفاق ومأزقي بينهما

   رنّ جرس التلفون، ولا أقول الهاتف، لأن هذه الكلمة أصبحت غير مفهومة عند البعض من أبناء الجالية الذين شدّوا أحناكهم الرخوة بمسامير جديدة مأنكلزة، ومطلية بماء الذهب. وكان على الخط الصحفي فرناندو فرنسيس الذي هتف لدى سماع صوتي:
ـ أين أنت يا أخي؟ أسرع نحن بانتظارك.
فأجبت:
ـ أنا آتٍ حالاً.
   أقفلت باب بيتي بعجلة ظاهرة ولسان حالي يردد:
ع وجّو بلاقي الاخلاص
الما في قبلو ولا بعدو
قنديل عمري لولا ناص
ضوّوا ضحكة فرناندو
   وما أن جلست وراء مقود السيارة حتى عاد جرس التلفون الى الرنين مرة ثانية، جعلتني أنطلق الى داخل البيت كمركبة الفضاء الاميركية السيئة الطالع "تشالينجر".
ـ ألو..
ـ هذا أنت؟ الحقني الى المطبعة.
ـ من.. الاستاذ كامل المر؟.
ـ أيوه، كامل.. أنا أكلمك الآن من البيت. أرجوك أن تسبقني الى المطبعة. فرناندو ينتظرك هناك أيضاً.
ـ خير إن شاء الله.. ماذا يحدث؟ هات أخبرني.
ـ هناك تحدٍ بينك وبين أحد الشعراء لاختيار أجمل تعليق شعري على صورة غلاف مجلة "الوفاق" التي ستصدر هذا الاسبوع.
ـ ومن هو هذا الشاعر؟
ـ انت تعال، وبعدها نتكلّم.
ـ حاضر..
   ولست أدري كم كنت محظوظاً، يومذاك، لعدم التقائي ببوليس سير، لأن السرعة التي قدت بها سيارتي لا تصدّق. ناهيك عن الهواجس الكثيرة التي بدأت تراودني طوال الطريق:
ـ من يكون هذا الشاعر الذي سأتحداه؟ هل هو نعيم خوري؟ معاذ الله، فنعيم أستاذ الجميع وشاعر فذ. هل التحدي سيكون باللغة الفصحى أم باللهجة العامية؟.
   أنوار مطبعة دار الثقافة ـ غرانفيل مشعة على غير عادتها أثناء الليل.
ـ من يوجد بالداخل؟ بإمكاني أن أرى فرناندو فرنسيس، فأين الشاعر اذن؟
   صرت أتساءل وأنا ألف وأدور بسيارتي حول البناء،  بشكل تجسسي قل مثيله في الدول العربية جمعاء، وبعدما وصل كامل لوحده، اطمأن قلبي قليلاً، فدخلت.
ـ مساء الخير يا جماعة..
ـ أهلا، أهلا..
ـ عجيب والله أمركما.. ماذا تريدان مني؟
ـ نريدك أن تعلّق على صورة هذه الفتاة الصغيرة ببيتين من الشعر، ونحن سنختار الأفضل.
ـ وكيف ستختاران ولا منافس لي؟
ـ لا يا شيخ، هناك منافس كبير. إقرأ.
إني ليخنقني الأسى ويهزني
ما لاح طفل يحتبي وغلام
علماً بأن دماءهم ليست لهم
وبأنها للطامعين طعام
ـ يا ساتر!
   ورميت الورقة المعطاة لي أرضاً، ورحت أعدو خارجاً، وأنا أصيح:
ـ أنت مجرم يا فرناندو.. أتريدني أن أتحدّى الجواهري؟ أتجرني من بيتي ليلاً لتطلب مني المستحيل؟. أما انت يا كامل، فيا ضيعان الشعر الذي قلته فيك:
انت احلى من الحلو يا مر
يا كامل العقل الرزين الحر
يللي اذا خرطشت كلمه ع الورق
بيغار من رهجة حلاها الدر
   وأعتقد أنهما شعرا بنوبة الجنون التي انتابتني، فبقيا مبتعدين عني قدر المستطاع، الى أن وصلت الى سيارتي، فناداني كامل قائلاً:
ـ لولا ثقتنا بك ما طلبناك.
   وأردف فرناندو:
ـ جرّب يا شربل جرّب. فنحن معك، والله معك.
   بلّعت بريقي عدة مرات قبل أن أجيب، ومسحت العرق المتصبب من جبيني وقلت:
ـ طيب، ولكن لي رجاء..
ـ وما هو؟ صاحا بصوت واحد.
ـ أن تحضرا لي كبّاية ليموناضة.
   وضعت صورة الغلاف أمامي، ورحت أحدّق بالطفلة البريئة التي تغمر رجليها مياه البحر، وترفع يديها في الهواء، كطائر صغير هبط من السماء، ليبلل جناحيه بعدما تطاولت عليهما أشعة الشمس وأحرقت ريشهما بشدة.
ـ ماذا تريد أن تقول هذه الفتاة؟ ربّاه أنقذني.
   وما هي إلا دقائق معدودة حتى بدأ الالهام يأتيني، والنعمة تحل علي، والقلم الخائف يتراقص بين أصابعي، ليخط هذين البيتين:
البحر يندهني، فهل من مانعٍ
أن يرتميْ الاطفالُ بالأحضانِ؟
قد حوّلوا الدنيا جحيماً حارقاً
والطفل لا ينمو بغير حنانِ
   وصدقني، قارئي، لو قلت كلمة السر "يوحنا" التي نطق بها "زكريا" والتي أعتقت لسانه من قيود الخرس، ما كانت لتلاقي التجاوب والارتياح عند محبيه، كما لاقت أبياتي هذه. فصاح كامل:
ـ رائع، رائع..
وصاح فرناندو:
ـ عجّل اكتبها..
وصحت أنا:
ـ أريد أن أنام.. أريد أن أنام.
**