الكل يعلم أن ديواني (مناجاة علي) قد ترجمه إلى الإنكليزية السادة: ناجي مراد، إيلي شعنين وجو اليموني. وإلى الفرنسيّة الاستاذ عبداللـه خضر، وإلى الإسبانية الصديق إبراهيم سعد. وها هو السيّد علي سلطان قبطان إحدى السفن القادمة من باكستان إلى أستراليا، يطلب مني أذناً بترجمة (المناجاة) إلى الباكستانيّة، ليتنعّم بقراءته معظم شعوب الكون، على حدّ تعبيره.
والقصّة بدأت عندما ذهب علي إلى مكتبة سيدني العامّة، وراح يفتّش بالكومبيوتر عن كتاب نهج البلاغة للإمام علي باللغة الإنكليزيّة. ولمّا لـم يجده، طبع على الشاشة اسمAli ، فإذا باسم ديواني (مناجاة علي) المترجم إلى الإنكليزيّة، يتراقص أمامه كأشّعة الشّمس فوق مياه الغدير. فطلب الديوان، ولكن الموظّفة أمهلته بعض الوقت، حتّى يحضروه له من مكتبة أخرى.
وما أن بدأ بتصفّح الديوان حتى بدأت الدموع تنساب على خدّيه، وأحسّ بشغف شديد لاقتناء الكتاب، فسأل الموظفة إذا كان بإمكانه شراؤه، فسمحت له فقط بتصوير عدد قليل من صفحاته.. فما كان من علي سلطان إلاّ أن صوّر عنواني، وأرسل لي رسالة من باكستان يطلب منّي فيها شراء نسخة من (مناجاة علي) بالثـمن الذي أحدّده. فأرسلت له نسخة منه بلغاتها الأربع، ففرح بها أشد الفرح، وسمح لجميع سكّان منطقته أن يصوّروه ويتناقلوه ويعلّموه لأطفالهم.
وراحت الأيّام والأسابيع والشهور تتسابق، وراحت الرسائل والإتصالات الهاتفية تصلني منه، إلى أن دق جرس بيتي منذ أسبوعين، ففتحت الباب وأنا أسأل: من الطارق؟.. فإذا بصوت غريب يتناهى إلى مسمعي قائلاً: أنا علي سلطان من باكستان، تركت سفينتي المسافرة غداً وجئت لأراك.
تتطلّعت به عدّة مرّات قبل أن أسأله الدخول. فلقد أحسست أنني في حلم، وأن من أرى لا يعقل أن يصل إلى بيتي على حين غرّة.
ـ من أوصلك إلى هنا؟ سألته.
ـ رجلاي.. جئت ماشياً من محطة قطار ماريلاندز ، لأن الباص أقلع قبل وصولي بلحظات.
ـ وكيف عرفت أنني في البيت؟
ـ كنت أصلّي طوال الطريق كي أراك..
ـ صدّقني أن صلاتك قد استجيبت.. لأنني وصلت منذ دقائق، وكنت على أهبّة المغادرة بعد دقائق. فما رأيك لو شاركتني طعام الغداء، كي نربح الوقت؟
تطلّع بالطاولة، فوجد عليها طنجرة مليئة بمحشي ورق العنب، فسألني: ما هذا؟ فقلت له: كُل دون أن تسأل.. إنه طعام لذيذ للغاية. فأكل، وأكل، وأكل حتى شبع، وهو يتمتم: الأكل اللبناني شهي للغاية.
وبخبرة الطبّاخ المتمرّس، راح يسأل زوجتي ليلى عن كيفيّة تحضير ورق العنب وطبخه.. وما هي أنواع البهارات التي تستعملها، وكيف تقوم بتقطيع اللحم إلى فرم صغيرة. وأعتقد أنه سجّل (الطبخة) في رأسه دون أن يستعين بقلم وورقة، لذكائه النادر.
وما أن بدأت الشمس بالرحيل، سألني حتى أوصله إلى أقرب محطّة قطار، فقلت إنّها على مرفأ بوتني. فضحك وقال: هناك ترقد سفينتي. فقلت: سأوصلك إلى هناك، فما رأيك؟. فابتسم وقال: شرط أن تزور وليلى سفينتي.
السفينة كبيرة جداً، إنّها (تايتنيك) من نوع آخر. كونها تنقل 3600 (Containers) دفعة واحدة. طولها 200 متر، وارتفاعها 14 طابقاً سكنياً.. فتصوّروا!!
وحده محرّك السفينة يحتلّ سبعة طوابق.. معظمها تحت الماء.. أمّا الطوابق الأخرى فيسكنها البحّارة وقادة السفينة.. بالإضافة إلى المطابخ وغرف الطعام والمستشفى وقاعة التمارين الرياضية وما شابه. إنها مدينة بحد ذاتها.. يسكنها ثلاثون شخصاً لا غير، يديرونها كما تدير الحكومات البلدان، ويتفانون في سبيلها كما تتفانى الأم في سبيل العائلة.
وفي مكتبه الرابض في أعلى السفينة، بدأ علي يفلش أمامنا، أنا وليلى، صور عائلته، ويقول لنا بفرح ظاهر: هذه زوجتي رانا، وهذه ابنتي زينب.. هذا إبني محمّد وهذا أخي عبّاس وعائلته على ضفّة نهر (سوات) في باكستان.
وكان كلّما تطلّع صوب مدرج مطار سيدني ليراقب طائرة مقلعة، أدسّ في جيبي صورة أعجبتني من صور أفراد عائلته، وأعتقد أنه ضبطني بالجرم المشهود، ولكنه تجاهل الأمر، ورماني بابتسامة رضى. وكنت كلّما حصلت على صورة، تتراءى أمامي خطوط مقالي هذا، وتتجمّع في مخيّلتي كحلم جميل، أحببت أن لا أستيقظ منه، وعندما استيقظت أقسمت أن أطلع قرّاء مجلّة (أميرة) عليه لطرافته وواقعيته.
عندما ودّعنا علي، أحسسنا أن أخاً عزيزاً قد فارقنا، ولولا وعده لنا باللقاء القريب لانهمرت دموعنا ولتطايرت محارمنا في الهواء، تماماً كما كنّا نودّع أقاربنا على مرفأ بيروت أيّام زمان.
علي سلطان، بحّار من باكستان، علّمنا كيف يجب أن يحترم الإنسان أخاه الإنسان.