العقل.. هو الأساس

    جَمَعَتْنا ، اليومَ، جريدةُ "العالـمِ العربي" ، لِمُناقَشَةِ مَوْضوعٍ زِئْبَقيِّ المَوادِ ، ناقَشَهُ السابِقونَ ، وَنُناقِشُهُ نَحنُ الانَ ، وَلَسَوفَ يُناقِشُهُ اللاحقونَ ، دونَ التَّوَصُّلِ إلى نَتيجَةٍ قَاطِعة وَثابِتَة ..أَلا وهو موضوعُ " التخيير والتسيير" ، وَلَكنَّ هذا لا يَمْنَعُنا ، لا الآنَ ولا غَداً ، مِن تَشْغيلِ العَقْلِ وَتَسْخيرِه لِبَلْوَرَةِ الأمورِ الَّتي تعنينا في الصَّميمِ .. إذ أَنَّ لا طَاقَةَ تُوازي طَاقَةَ العَقْلِ .. فَمِنْهُ تَبْدَأُ الأشياءُ وَبِهِ تَنْتَهي.. أَوَ لَمْ يَقُلِ الشّاعرُ صالح بن عبد القدّوس :
إذا تَمَّ عَقْلُ المَرْءِ تَمَّتْ أُمورُهُ         
وَتَمَّتْ أَمانيهِ وَتَمَّ بِناؤهُ
    وَأَبو العلاءِ المَعرّي :
كَذِبَ الظَّنُّ لا إمامَ سِوَى          
العَقْلِ مُشيراً في صُبْحِهِ وَالْمَساءِ
    وَسيِّدُ الشّعراءِ .. المُتنبي :
لَوْلا العقولُ لَكانَ أَدْنى ضَيْغَمٍ      
 أَدْنى إلى شَرَفٍ مِنَ الانسانِ
     إذن ، مِنْ العقلِ يَجِب أَن نبدأَ ، وبالعقلِ يجبُ أن ننتهي .. وَلِهذا أَعْتَقِدُ أن الانسانَ مُسَيَّرٌ وَمُخيَّرٌ في آن واحد : مُسَيَّرٌ في ولادته وجنسِه وَمَرَضِه ومماتِهِ.. وَمُخيَّرٌ في كلِّ شيءٍ ما عدا ذلكَ.. صَحيح أَنَّ البعضَ منّا يَرْمي باللائِمَةِ على القضاءِ والقدر .. وأَنَّ اللـه يُحضِّرُ لهم كلَّ شيء ، فَإذا انتحرَ أَحدُهم قالوا :
"هَيْك أَللـه راد" .. 
وإِذا وَقَعَتْ طائِرَةٌ لـم تَنَلْ صيانَةً كافِيَةً صاحوا: 
هَيْدا حُكُم أَللـه" 
في وقت تكون به شركات التَّأْمينِ في أَسْوَإِ حالاتِها.. 
ويتناسى هذا البعض تماماً أنَّ اللـه وَهبهم عَقلاً وإحساساً يَهْدِيانِهِمْ الى الخير ..
فَلَوْ أَنَّ المشيئةَ الالهيةَ تُسيِّرُنا مِنَ البدايَةِ الى النِّهايَةِ دون إدراكٍ مَنّا ، لسَقَطتْ مُعْظَمُ تعاليمنا الدينيّة وخاصةً تلكَ التي تُخبرُنا بأَنَّ اللـه يبعثُ النّاس يومَ القيامَةِ ،ويحاسبهم على ما فعلوا في الحياة الدنيا ، ثُمَّ يُثيبُهُم أَو يُعاقبهم  في جَنَّةٍ أَو نارٍ .
       قال أَرِسطو : إن الفلسفةَ هِيَ العلمُ بالأسبابِ القُصوى ، أَو العلمُ بالموجودِ من حيثُ هو موجودٌ .."
       وَقالَ أَفلاطون : إن الفلسفةَ هي العلم بالحقائقِ المُطلقَةِ المُستَتِرَةِ وراءَ ظواهرِ الأشياء .."
        لذلِكَ حاولَ اليونانيونَ التقيُّدَ بالعقلِ في حكمهم على الاشياءِ ، فقالوا إن حوادثَ الكونِ ليست خاضعةً للمُصادَفَةِ والاتفاقِ ولا لتأثير القوى المُفارِقَةِ للطبيعةِ، وإنّما هي ظواهرُ مقيّدةٌ بقوانين تؤلِّفُ كُلاًّ حقيقياً يستطيعُ العقلُ أن يدركَهُ بنفسه، وأن يحيط بِأسبابه القريبة والبعيدة.
ولو فهِمت الكنيسة الكاثوليكيّة مدى حجمِ عقلِ غاليلو .. لقالت قولَه بأنّ الارضَ تدورُ على نفسها ، ولَجنَّبَتْ نفسَها  الاعتذارَ من روحِه العظيمةِ بعد عدة قرونٍ من عدمِ الاستيعابِ والمعرفة . 
     في بعض الحضارات تميلُ كفّة الميزان مع " العقلِ " ضد " النقلِ " .. أو مع " الروح " ضد " المادة " .. أو مع " الدين " ضد "الدنيا".. أو مع " الذوق " الصوفي ضد كلٍّ من " العقلِ والنقلِ " على السواء ، أو قد يكون الميل الى العكس والنقيض .
    قلت في بعض "الحضارات " كي لا أقولَ في بعضِ " المذاهبِ الدينيّةِ " تجنّباً لوجع الرأسِ .. إذ أنَّ مذاهبَنا الدينيّة المتعدِّدَةِ الاّراء والفتاوى ، هي التي رمتنا في دوّامةٍ من الحيرةِ قد لا نتخلص منها إلا بالمجابهةِ العقلية .. أوَ لَم يقُلْ النبيُّ العربيُّ العظيمُ : لا دينَ لمن لا عقلَ لهُ .  
      ولَقَدْ علَّمونا في الدينِ المسيحي أَنَّ اللـه خَلَقَ الانسانَ على صورتِهِ ومثالِهِ ، فبِئسَ منْ لا يقولُ قولَ أَحد الخلفاءِ الراشدين : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهُم أمهاتُهم أحراراً ..
 فَمِنْ هذه الحريّة تَكَلَّمت ..وشكراً .