نحن شعب نحب الصراخ، ونطرب له، فإذا أطل (رئيسنا المفدى) هتفنا له حتى نفقد أصواتنا، وينعم حضرة جنابه بنوم عميق، بينما نحن فيجرنا القلق من رموش أعيننا خوفاً على مستقبلنا، ومستقبل فلذ أكبادنا، ويحرمنا من دقيقة نوم هادئة.
وإذا ثأثأ زعيم عشائري، ورث الزعامة عن أبيه، تتعالى زغاريدنا، وتتلوى هتافاتنا: بالدم، بالروح، نفديك يا زعيم، بينما هو يعاني من ثأثأته ورجرجت لسانه، وتلعثم الكلمات في فمه.
وإذا نادى أحد رجال الدين بموت أعداء الدين، وبسحق كل من لا يؤمن إيمانه، نردد كالببغاوات: آمين.. آمين.. آمين. وكأن الكون ما وجد إلا لنا، ولبنينا بعدنا، أما غيرنا فله البحر.
وإذا كتب أحدهم مقالاً عبر به عن رأيه بحرية وثقة، علت احتجاجاتنا، وتتطاير غبار صراخنا، غير عابئين بما سيصيب طبلات آذاننا من انتفاخ وانفجار، قد يوصف بالإرهابي أيضاً. المهم أن نصرخ، ومن لا يصرخ مثلنا، فهو ليس منا، ولا نريد أن نتعرّف عليه، أو أن نعترف به.
أخاف أن يستعملوا معنا آلات تنظيف السجاد، كما استعملها (مبارك) مع ابنه الباكي، علنا نتنعّم بلذة النوم، ونعطي لأفواهنا استراحة أطول، قد تجلب الخير لنا، وللمجتمعات التي نعيش بها. وإليكم القصة:
صاحت الزوجة بصوت مزعج كأنه دويّ طائرة نفّاثة، اخترقت جدار الصوت، وحطّمت زجاج المنازل:
ـ أسرع يا مبارك.. إبنك فحّم من كثرة البكاء.
ومع ذلك لـم يسمع مبارك زعيق زوجته، لأنه كان منهمكاً بتنظيف سجّاد بيته بآلة الـ (هوفر ـ ماتيك)، التي اشتراها منذ أسبوع بمبلغ يفكّ مشنقة، على حدّ تعبيره. فاقتربت منه زوجته وصاحت في أذنه:
ـ لماذا لا تردّ عليّ؟.. لقد نشّف الصراخ بلعومي..
فأجفل، كمن لسعته أفعى، لدى سماع صراخها، وقال:
ـ لـم أسمعك.. صوت (الهوفر) أعلى من صوتك..
ـ إبنك يبكي منذ نصف ساعة، ولا أدري ماذا أفعل..
ـ بسيطة..
ـ قلت لك: إبنك فحّم من كثرة البكاء.. فتقول لي: بسيطة!
ـ تعالي معي ولا تخافي.. سأجعله ينام كالمومياء، ويشخّر كالخنزير.
فما كان منه إلاّ أن جرّ آلة تنظيف السجّاد حتّى باب الغرفة التي يوجد فيها الطفل، ثـم قفل راجعاً إلى الصالون ليكمل تنظيفه. فإذا بالطفل يهدأ تماماً، ويغطّ في نوم عميق هانىء. عندئذ طار عقل الزوجة، وراحت تلطم على وجهها وتصيح:
ـ ماذا فعلت يا مبارك؟.. لقد قتلت إبنك..
ـ إنه نائـم.. لا تخافي.. إبننا يحب أن ينام على صوت (الهوفر).
ـ هل هذا معقول؟
ـ معقول ونصف..
ـ وهل تعرف أحداً ينام على صوت (الهوفر) المزعج؟
ـ ولـمَ لا.. أنا مثلاً كنت أنام على صوت (بابور) الكاز، وكان أبي يحقنه بالكاز، ويتلاعب بموسيقاه الناريّة إلى أن يسمع شخيري.
ـ بارك اللـه فيك.. يا مبارك.
فتنحنح مبارك، وقال وهو ينفخ صدره كالطاووس، وابتسامة النصر تعلو شفتيه:
ـ أفضل أن تقولي: بارك اللـه (بالهوفر ماتيك)..
إذا علا صراخ زوجك داوِه بالهوفر ماتيك، وإذا صاحت زوجتك بأذنك أسمعها صوت الهوفر ماتيك، وإذا أزعجك جارك بزفيره وشهيقه صوّب على شبّاكه الهوفر ماتيك، أما إذا حضرت مهرجاناً سياسياً وتعبت من ثرثرات زعمائك، إياك أن تلجأ إلى الهوفر ماتيك، لأنهم سيصادرونها، وستخسر أهم أسلحة الصمت في عصرنا هذا.