التظاهرات الدينية.. من طرابلس للإسكندرية

   مجرد إشاعة، مهما كانت صغيرة وتافهة، قد تحرق بلداً بأكمله، فكم بالحري إذا كانت تلك الإشاعة دينية، روجها بعض المهووسين المرضى من أجل غايات في قلوبهم، وليس في قلب يعقوب، كما يقول المثل.
   الإشاعة الأولى تطايرت شرارتها في مدينة طرابلس الفيحاء، ثاني أكبر المدن اللبنانية، وأشدها تعايشاً وتسامحاً، بعد أن قررت لجنة إنماء السياحة في بلدية طرابلس استضافة الفرقة الإيطالية ( Figurazione ) بغية تقديم عرض مسرحي إيمائي، يطلي خلاله الممثلون والممثلات ثيابهم بالجفصين الأبيض، كي يظهروا كالدمى المتحركة، ولأن أعضاء الفرقة يفضلون تقديم عرضهم بين الناس مباشرة، ليأتي أكثر جمالاً، وأشد تعبيراً، اختارت اللجنة مقهى (موسى) في منطقة الحدادين الشعبية. وما أن علمت بعض الجهات (المتدينة) بذلك، حتى بدأت التهديدات المبطنة تصل عبر الهاتف إلى مجلس بلدية طرابلس، وتطالب بعدم تقديم العرض لأن الممثلين والممثلات عراة، وهذا شيء منافٍ للحشمة، على حد تعبيرهم، وراح مسؤولو البلدية يوضحون صورة العمل الفني الراقي، وأن الممثلين يرتدون ثيابهم، ولو طليت بالجفصين، إلى أن تم العرض، الذي لاقى استحساناً من قبل المشاهدين، وفجأة علت أصوات التكبير والهتافات الدينية، وبدأت مجموعة من الشباب المتحمس دينياً بمهاجمة الفنانين العالميين، ولكن عناصر الجيش والدرك كانت لهم بالمرصاد، ففرقت التظاهرة، وتفرق الممثلون، وتوقف العرض المسرحي العالمي الراقي، دون أن تنفع احتجاجات العديد من الفعاليات الطرابلسية السياسية والتجارية والأكاديمية، واستنكار الهجوم على الفرقة، وتخويف أعضائها باسم الدين.
   ومنذ سنتين، عرضت في الإسكندرية، وفي إحدى كنائس حي محرم بك، مسرحية دينية لمدة يوم واحد، ليس في الشارع العام، كما حصل في طرابلس، بل ضمن جدران أربعة، دون أن يحرك أحد ساكناً، أو أن تسير التظاهرات، وتهاجم الكنائس والمؤمنين، إلى أن أوقد أحدهم نار الفتنة، لغاية في قلبه طبعاً، ولكي يبعد الفوز عن بعض المرشحين الأقباط للإنتخابات التشريعية، وكأن لا يحق للأقباط الترشيح والفوز بل التعيين من قبل الحاكم بأمره.
   البابا شنودة أكد رفضه لمحاسبة المسيحيين، وإحراق كنائسهم، ومتاجرهم، بسبب شائعة أطلقتها بعض الوسائل الإعلامية، ونفى أن تكون إحدى الكنائس قد أهانت الإسلام أو القرآن الكريم. كما أن المسرحية لم يرها مسلم واحد، وكانت تتحدث عن التطرف الذي يتأفف منه جميع المسلمين في كافة أنحاء الأرض، ولم تنتقد لا من قريب ولا من بعيد المقدسات الدينية عند المسلمين.
   ومع ذلك تمكنت شائعة تافهة من تثوير الآلاف، وحقنهم بمورفين الطائفية القاتل، وتوجيههم نحو أهداف معينة، ليس من أجل حماية الدين الإسلامي الحنيف، وليس من أجل الدفاع عن نبينا العربي العظيم، بل من أجل مكاسب سياسية بحتة، والفوز ببعض المقاعد النيابية في الإنتخابات التشريعية المقبلة. وهذا ما لم يكن خافياً على البابا شنودة، الذي أعرب عن أمله في ألا يكون للإنتخابات التشريعية المقبلة دور في إثارة أو استغلال تلك الأحداث.
   من منا لم يسمع مئة مرة باليوم بعض شيوخ المنابر، ومذيعي الإذاعات الإسلامية المتطرفة، وهم يتهمون المسيحيين بالكفر، ويدعون إلى قتلهم وسحقهم، حتى في الدول المسيحية ذاتها، كأستراليا مثلاً، دون أن يحرك أحد ساكناً، أو دون أن تنطلق التظاهرات من الكنائس بغية حرق الجوامع، وإقفال الإذاعات الإرهابية المتطرفة. هناك طرق قانونية بإمكان أي كان أن يلجأ إليها من أجل الوصول إلى حقّه، فلماذا لم يلجأ الثائرون على مسرحية (كنت أعمى وفتحت) إلى القضاء المصري بغية تلقين المؤلف والمخرج والممثلين درساً لن ينسوه، إذا كانوا، لا سمح الله، قد أساؤوا إلى معتقدات إخوانهم المسلمين؟ فمن نحتج عليه هو منا، إبن بلدنا، يتكلم لغتنا، ويسكن معنا في عمارة واحدة، أي أنه مصري أبا عن جد، فلماذا لا نتعامل معه قانونياً، بدلاً من أن نرهبه طائفياً، وندعوه إلى التقوقع في كانتون طائفي، لن يرضاه ولو أجبر عليه، ونعمل على تقسيم وطننا العربي إلى دول عرقية وطائفية بسبب همجيتنا الدينية، في وقت نجد أن تركيا المسلمة تعمل المستحيل من أجل الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي المسيحي بغية تأمين عيش أفضل لسكانها، وبغية التأقلم مع محيطها الأوروبي، وكي لا تبقى بمنأى عنه.
   لم أعد أدري من يفتي من المسلمين، ولأي سبب يفتون، فلقد أصبح بإمكان أي كان تثوير الناس طائفياً، وجرهم إلى التظاهر ضد أي شيء لا يعجبه، حتى وإن كان يجلب الخير لمدينته، ضارباً عرض الحائط باستنكار الفعاليات الإسلامية، واحتجاج مفتي الجمهورية، وتوضيح البابا شنودة، ودعوة شيخ الأزهر إلى التهدئة، وتدخل جميع الأحزاب الدينية والمدنية من أجل جمع شمل الشعب الواحد، وتفريق التظاهرات من قبل الشرطة، ووقوع العديد من الضحايا، فالشر يجب أن يحرق البلاد، ومن يقف بوجهه، أو يحاول إطفاء حرائقه، سيرمونه بالكفر، عندئذ سيصطاده مطلق جاهل جبان، كما حصل مع النوبلي نجيب محفوظ.
   كي يعم الخير في عالمنا العربي، يجب أن يخضع جميع أبنائه لقوانين مدنية صارمة، تفتك بكل من يحاول أن يفتك بمجتمعه، أو أن يفككه ويشرذمه طائفياً، عندئذ نصبح بشراً كباقي البشر، وإلا.. فرحمة الله علينا.