معلمي يقبل رأس أمي

منذ مدة طويلة وأنا أحاول أن أكتب بعض مذكراتي مع أمي، علني أرد لها بعض الفضل، وكي يبقى ذكرها خالداً، لأنها طبّقت المثل القائل:"وراء كل رجل عظيم امرأة". وأعترف أن كل نجاح حصدته طوال رحلتي مع القلم كان بدعم منها. 
واليكم قصتي الجديدة:
يوم كنت في الصف الثالث ابتدائي، قررت إدارة مدرسة الزاهرية في طرابلس، أن ترفعني من الثالث الى الخامس ابتدائي بسبب تفوقي الدائم على رفاق صفي، كي لا أقول "الأول". 
انتقلت الى الصف الخامس، وتقدمت لشهادة "السرتيفيكا" ونجحت، فبدأت أقترب أكثر فأكثر من صف أخي جوزاف الذي يكبرني بسنتين وعدة أشهر، ولم يبقَ بيني وبينه سوى صف واحد، الى أن انتقلت الى "العالي ثانٍ"، هناك قرر جميع معلمي الصف الذين يدرسون مواد مختلفة أن أنتقل الى "العالي رابع" وأن أتقدم الى شهادة "البريفه"، فطلبوا اجتماعاً مع أهلي، فوافق أبي بسرعة هائلة، أما أمي فلم تنطق بكلمة.
وما أن دخلت الى "العالي رابع" حتى أجلسني مدير المدرسة الى جانب أخي الحبيب "جوزاف"، أي أنني لحقته في صفه رغم فرق العمر بيننا. وكان هناك، لحسن حظي وسوء حظه، أستاذ اسمه جليل بحليس من بلدة منيارة ـ عكار، يعلمنا مادتيْ التاريخ والجغرافيا وكان يؤلف الكتب التي يدرسنا بها، وتطبعها وتوزعها له، دون ذكر اسمه، دائرة المعارف اللبنانية، وكان، رحمه الله، يجلس في الصف طوال فرصة "الغداء" بغية تنقيح وإضافة معلومات الى طبعات كتبه الجديدة، وكان يعجب باتقاني الشديد للغة العربية، فسألني ذات يوم:
ـ ألا تلعب مع رفاقك؟ لقد راقبتك البارحة فوجدتك جالساً لوحدك في الملعب. العب مع أخيك جوزاف وان كان أكبر منك، فأنت بصف واحد معه. أو بإمكانك أن تجلس معي في الصف وتراجع ما أكتب، فإن وجدت أي خطأ ضع تحته خطاً أحمر، أو صححه لي. ما رأيك؟
لم أصدق ما سمعت، فقلت له باندهاش ظاهر:
ـ أنا أصحح لك يا معلمي!؟
ـ أجل أنت.. وأنا معجب بمقدرتك اللغوية.
ـ ولكنني تلميذك.. ماذا ستقول لباقي الرفاق؟.
ـ سأقول لهم: كونوا مثل شربل بعيني.
ولم يكتفِ الاستاذ جليل بحليس بهذا القدر من الاعجاب، بل راح يقول للطلاب إثر كل امتحان:
ـ ستقولون في يوم من الايام أننا تعلّمنا في صف واحد مع شربل بعيني.
وكان أخي جوزاف ينقل هذه الأخبار السارة الى  أذن أمي بترونله، بغية إسعادها بنجاح أخيه شربل، وكانت أمي تتجاهل الأخبار المفرحة كلياً.
إلى أن أنبّ الاستاذ بحليس أخي جوزاف أمام باقي طلاب الصف، وقال له:
ـ كن ذكياً مثل أخيك شربل، ألم تأتيا من بطن واحد، ألم ترضعا نفس الحليب، فلماذا اذن علاماتك متدنية وعلاماته عالية؟ 
فأجابه أخي جوزاف:
ـ أنا أدرس أكثر منه، ومع ذلك تضع لي علامات سيئة.
وهنا وقع ما ليس في الحسبان، إذ التفت المعلم الى أخي وصاح بأعلى صوته:
ـ أتريد أن تعرف لماذا علاماتك أدنى بكثير من علامات أخيك شربل، لأنه "فرخ فيلسوف".
وكعادته حمل أخي جوزاف الخبر الى أذن أمي، فطلبت من جميع اخوتي أن يخرجوا من الغرفة، لأنها تريد أن تكلمني على انفراد، فسألتني، والغضب ظاهر على وجهها:
ـ هل سررت عندما سمعت توبيخ المعلم لأخيك، ومديحه لك.
ـ لا يا أمي، لأن أخي جوزاف صديقي الوحيد بين اخوتي، وهو يحبني كثيراً، ويفرح اثر كل اطراء يقدمه المعلم لي.
وفي اليوم التالي، وبينما كان الاستاذ بحليس يشرح لنا درساً جديداً، جاء ناظر المدرسة وهمس في أذنه كلاماً لم نسمعه، فطلب مني أن أراقب الصف كي يرد على مكالمة هاتفية هامة. 
مر وقت طويل، والمعلم لم يأت بعد، وفجأة رن جرس فرصة الغداء، فخرج جميع الطلاب وبقيت وحدي في الصف أنتظر عودة معلمي لأكمل تصحيح بعض صفحات كتابه الجديد، فإذا به يدخل دون أن يعيرني اهتماماً، فسألته:
ـ هل أزعجتك المكالمة؟ أراك لا تكلمني.
ـ لا لم تزعجني، ولكنها أعطتني درساً لن أنساه.
ـ وممن كانت؟
ـ من أمك بترونله..
ـ أمي أنا؟
ـ أجل.. لقد طلبت مني أن لا أمدحك أمام أخيك جوزاف، خاصة عندما أوبّخه.
ـ أرجوك أن تسامح أمي، وأن لا تغضب مني أو من أخي، لأننا نحترمك كثيراً.
فقام ، رحمه الله، عن كرسيه، وقبلني على رأسي، وقال:
ـ أوصل هذه القبلة لرأس أمك، فلو كانت موجودة أمامي لقبلت رأسها شخصياً.
ـ ولماذا؟
ـ لأنها تخاف على وحدة أبنائها.. تريدهم أن يكونوا واحداً.. لا أن يدب التنافس والتناحر بينهم. ولقد اعترفت لها بخطإي فسامحتني.
ـ أنت يا معلمي طلبت السماح من أمي؟
ـ أجل، فلقد كانت على حق، وكنت أنا على خطأ، فلماذا لا أطلب السماح.
عندها وقفت وقبّلت رأسه، والدموع تنهمر من عيني، فإذا بأخي جوزاف يدخل الصف فجأة، فوجدني أبكي، فقال للمعلم:
ـ لقد أرسلت بطلبي يا سيدي، فهل قام أخي شربل بعمل سيىء، أني أراه يبكي؟!
فطلب منه المعلم أن يقترب أكثر، ليقبله على رأسه كما قبّلني تماماً، وليقول له:
ـ هذه القبلة ليست لك بل لرأس أمك.. قبّلها عني.
رحمكما الله يا استاذي الكبير جليل بحليس ويا امي الحنونة بترونله، فلقد كنتما القدوة الصالحة لي، وأطال الله بعمرك يا اخي وصديقي جوزاف، كي تبقى دائماً معي، تظللني بحبك وتشجيعك، كما كنت تفعل دائماً.
ولمعلوماتكم فقط، فلقد أهديت احد كتبي الى روح معلمي هذا وذكرت شيئاً من هذه القصة.
شربل بعيني