عندما صفعتني أمي

لم تضربني أمي، وأنا صغير، رغم مشاغباتي الكثيرة، ولكنها ضربتني وأنا في الثالثة والثلاثين من عمري، بعد مشاركتي باحتفال أدبي أقيم في قاعة "ثانوية مدرسة وايلي بارك"، تكريماً لأمير الشعراء أحمد شوقي. وكانت المناسبات الأدبية في ذلك الحين تجلب أناساً عديدين، عكس اليوم تماماً، وكنت، وللأسف، مغروراً بنفسي، أمشي بين الناس كالطاووس، ولسان حالي يردد:
أنا ديك من الهند
جميل الشكل والقدّ
وأذكر أنني ألقيت يومذاك قصيدة رائعة، ألهبت الأكف، وأجبرت دكتوراً مصرياً، أعتقد أن كنيته "العريان"، قادماً من العاصمة كانبرا، على الوقوف وهو يصفق، ويصيح:
ـ برافو.. برافو
ورغم أنني كنت آخر المتكلمين، إلا أنني أحسست بتفوقي عليهم جميعاً، فنفخت صدري، ونزلت عن المسرح، وابتسامة أمي التي استقبلتني بها، أطول من مترين، كيف لا، وابنها شاعر.
وبعد انتهاء الندوة لم أعد أعرف من سيقبلني ويهنئني من المتكلمين والجمهور، وكنت أزداد انتفاخاً، لدرجة أحسست معها، أنني سأنفجر إن لم أترك القاعة، فقلت لأمي:
ـ هيّا بنا الى البيت..
وبينما كنت أقطع المسافة الفاصلة بين منطقتيْ "وايلي بارك" و"ماريلاندز"، دار بيني وبينها حديث لن أنساه ما حييت، فلقد قلت لها واللعاب يتطاير من بين شدقيْ:
ـ أرأيت يا أماه كيف مسحتهم، كسحتهم، حطّمتهم. لقد وضعوا اسمي في الآخر، فوضعتهم في جيبي. ابنك الأول رغم أنوفهم.
فإذا بأمي تصفعني على فمي، وتصيح بأعلى صوتها، وهي تفتح باب السيارة كي تنزل منها، رغم سرعتها:
ـ أوقف السيارة، أنزلني هنا، لا أريد أن أكمل الطريق مع ابن مغرور، تافه، فارغ. 
ـ إنهم يحاربونني، ألمْ تريْ كيف وضعوني في آخر البرنامج.
ـ لا يحارب شربل بعيني إلا غرور شربل بعيني.
ـ ولماذا تغتاظين إذا قلت عن نفسي "الأول"؟.
ـ ومن أنت حتى تكون "الأول"؟ فإذا كنت "الرابع" بين إخوتك الستة، فكيف ستكون "الأول" بين الملايين؟ أجل أنت الرابع بين أبنائي، وأشكر الله على ذلك، كي لا أكنى باسم ولد يحقّر الآخرين كي يرفع كعب حذائه. 
ـ لا تفهميني غلط..
ـ بربك قل لي يا شربل: ماذا تريد منهم؟ أنهم رفاقك، زملاؤك.. هنأوك، قبّلوك، أشادوا بقصيدتك، وأبدوا كل احترام لك، فلماذا تغدر بهم؟ هل هذا جزاء محبتهم لك؟ أنت مريض يا بنيْ.. فساعد نفسك.. تخلَّ عن غرورك وتمسك بإبداعك. كرّم الآخرين كي يكرّموك.. مدّ يد المساعدة لكل من يطلب مساعدتك كي تصبح تينة مثمرة لا يلعنها أحد.
ـ ولكنك ضربتني يا أمي!
ـ وسأضربك مرة ثانية إن انت حقّرت غيرك لترفع من قدرك. موهبتك نعمة من عند الله، فلا تلوثها بغرورك. وتذكر دائماً يا ولدي أن الأدب فقر، لا يطعم خبزاً.
ـ أنا آسف يا أماه..
ـ عدني أن لا تزاحم أحداً، وأن لا تتكبّر على أحد، لأنك "تراب" في النهاية.
وما أن وطأت قدماي عتبة البيت، حتى أمسكت بورقة يتيمة وجدتها على مكتبي، ودوّنت عليها تلك العبارة التي نشرتها فيما بعد بكتاب "خواطر":
ـ منْ يشتُم يُشتَم، ومنْ يكرّم يُكرَّم
وبعد أن انتهيت من كتابتها، وجدت أمي واقفة ورائي، تقرأ ما كتبت، والابتسامة تتوج ثغرها الجميل، وتهمس في أذني ذلك القول المقدس:
ـ هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.
رحمك الله يا أمي كم كنت حكيمة.
**