مراح السفيرة، قرية لبنانيّة تشرئبّ في أحد جرود قضاء الضنيّة، تعرّض أهلها للتهجير عدّة مرّات، أيّام حلف بغداد وثورة عام 1958، وخلال الحرب الأهليّة الأخيرة، ومع ذلك لـم يتزعزع إيمانهم بمنطقتهم وبأهلها، وبتعايشهم الأخوي، كما أنهم لـم يتخلّوا عن حبّة واحدة من تراب قريتهم المقدّس.
ومن عطاءات هذه البلدة البشريّة، أطلّ الباحث الإجتماعي والإقتصادي الأستاذ بدوي سمعان، الذي التقيته في لبنان، وفي بلدتي مجدليا بالذات، كونه صهر مختارها الياس أبي خطّار، فغمرني وزوجتي باهتمامه، بحبّه، وبمشاويره المميّزة. وخاصّة تلك الرحلة إلى منطقة عكّار، وإلى بحيرتها الرائعة، وإلى سراياها القديمة المبنيّة بالحجر العكاري الأسود، الذي أقسم الأمير فخر الدين الثاني الكبير أن يعمّر به دير القمر، يوم عيّره آل سيفا بقصر قامته، فقال:
نحنا كبار.. بعيون الأعادي زغار
إنتو خشب حور.. نحنا للخشب منشار
وحقّ طيبَه وزمزم والنبي المختار
ما بعمّر الدّير إلاّ من حجر عكّار
وصدّقوني أنني لـم أزر منطقة عكّار من قبل، وأن انطباعي عنها كان عكس ما تنعّمت بمشاهدته، فلقد كنت أعتبرها، أو هكذا صوّرها لي الإعلام اللبناني، منطقة متخلّفة، لـم تصلها الكهرباء، ولـم تجرِ في قساطلها المياه، حتى ولـم تتعبّد طرقاتها بالإسفلت. كنت أعتبرها خارج المدنيّة تماماً، فإذا بي أجدها توزّع مدنيّة وعمراناً على باقي المناطق اللبنانيّة، وتتشاوف عليها بطرقاتها المعبّدة الواسعة، وببناياتها الحديثة الشامخة. إنها، وباختصار، جنّة داخل الجنّة اللبنانيّة.
تتسع ابتسامتك، وأنت تستمع للصديق بدوي، وهو يعلمك بأنك دخلت الآن مركز القضاء حلبا، وبعد لحظات أنت في القبيّات وعندقت وغيرها من البلدات العكاريّة المتراصّة عمراناً وشعباً، كعقد ذهبيّ تماسكت حلقاته بشدة، كي لا تتخلّى عن بعضها البعض، وتتناثر في السهل المثقل بالخيرات.
سؤال واحد ما زال يراودني: لماذا لا تستغلّ الدولة سرايا عكّار القديمة، وتحوّلها إلى متحف ندخله رافعي الرأس، ونثقّف أنفسنا به، بدلاً من أن نقف أمام بناء تراثي مهجور، أقفلوا أبوابه بكومة من الحجارة؟
رحلتنا إلى عكّارنا الشامخ كانت شيّقة، كون الذي أخذنا إليه، شيّق الكلام، جميل الصحبة، ومعجماً هائلاً من المعلومات. فألف شكر يا بدوي سمعان، وإلى اللقاء يا منطقة عكّار الحبيبة.