زَفَّةُ عروس أنطوني ولسن

    ما أَن قَرَأْتُ الصَّفْحَةَ السَّادِسَةَ مِنْ زَفَّةِ الْعَرُوس  لأَنْطوني وِلْسُن حَتّى صَرَخْتُ مِن شِدَّةِ الْغَضَبِ : ها أَنا أَمَامَ أُصُولِيٍّ مَسِيحِيٍّ مُتَزَمِّتٍ ، لَنْ يَغْفِرَ لي الـلهُ إِنْ لَـمْ أُعَلِّمْهُ دَرْساً أَدَبِيّاً أَخْلاقِيّاً دِينيّاً إِنْسانِيّاً لَنْ يَنْسَاهُ طِوالَ سِنِي حَيَاتِه . وَلَكِنّي ما أن وَصَلَتُ إِلَى نِهايَةِ الزَّفَّةِ ، حَتّى وَجَدْتُنِي أَبْكِي مِن شِدَّةِ الْفَرَحِ والتَّأَثُّرِ ، وَأهتِفُ بِحياةِ العُمْدَةِ الْمُسْلِمِ ، وَنَعِيمةِ المُسْلِمَةِ ، وَشَهْدِي الْمَسِيحيِّ وَأَنْطوني وِلْسُن الكاتِبِ الْمَهجريِّ ، مُحَقَّقِ رَغْبَةِ فيلسُوفِ الْمَهجرِ مِخائِيل نُعَيْمَة ، الذي تَمَنّى في حديثٍ أجراه معه الأديبُ توفيق يوسف عوّاد:" أن يَنْزَعَ من اللغة كلّ ما فيها من زوائدَ ، وما أَكثرها ، أَكثَرُ من الهمِّ عَلَى القلب ! "كان " وأَخواتُها ، " إنّ " وأخواتُها ، الممنوعُ من الصّرف ، أحرفُ النّصبِ والجزمِ إلـخ . ومعها كلُّ تلك الألفاظِ المحنّطةِ في القواميسِ ، هِي الزَّوائدُ ، مِنَ الزَّائدةِ في أَحْشاءِ الإنسانِ، كانَتْ تَقْتُلُهُ وهو يحسُبُ أَنّها من تَمامِ خَلْقِهِ " (1).     
    وَقِصَّةُ زَفَّة العروس  تُخْبِرُنا كَيْفَ سَرَقَ إِبنُ العُمدَةِ فتح الـله مِحْفَظَةَ نقودِ أحدِ الفلاّحين ، وكيفَ أَرْسَلَ الخَفِيرَ ـ الشُّرطِيَّ ، وهو أحدُ أَزْلامِهِ ، لِيقبِضَ عَلَى إنسانٍ بريءٍ كان يَمُرُّ صُدْفَةً من هناك .. "وبعد حوارٍ طالَ بين الثّلاثَةِ ، إقتنع الخفيرُ ـ المُقتنِعُ تِلْقَائِياً ـ بالتُّهمةِ ، ورفعَ يدَهُ وصفعَ المُتَّهَمَ على وجهِهِ ـ هكذا ، وبكُلّ وَقَاحَةٍ مِهَنِيَّةٍ مُبَاعَةٍ ـ فَسَقَطَ "المِقْطفُ" والفأسُ ، بعدَ أن رفعَ الشّابُ يَدَهُ لحمايةِ نفسه من صفعاتِ الخفيِر"(2)
     وفجأةً ، وبدونِ سابقِ إنذارٍ ، بَدأَ مِبْضَعُ أنطوني ولسن يتلاعَبُ بجرحنا الطّائِفيِّ المميتِ في الشَّرْق :
ـ " نُصراني ، صاح الخفير ، بالطّبع .. مَنْ يسرق غيركم يا كفّار يا مَلاعين؟!
  لقد رأى الصّليبَ فجُنَّ جُنونُهُ ، وأخذ يَضْرِبُ الفتى بوحشيّةٍ ، مستهزئاً بدينِهِ " .. حسبَ ما ورد في الصَّفحةِ السّادِسَةِ من زَفَّةِ العروس .
    وفي الصَّفحةِ الثَّامنة ، كانت نَعيمةُ الرّاقصةُ التي رأت إبنَ العُمْدَةِ يسرُقُ المِحفظةَ ، كئيبَةً .. "إِنَّها تحلُمُ بالزَّوجِ والأولادِ والعملِ الشَّريفِ ... ولكنَّها شريفةٌ لَـم يَمَسَّها إنسانٌ!! " 
    ما هذا التَّلاعبُ الرّائعُ بشخصيّاتِ القِصَّةِ : إبنُ العُمْدَةِ حرامي ، والخفيرُ مُستزلِمٌ طائِفِيٌّ حقيرٌ ـ لَيْتَهُما كانا خفيرَيْن ، واحدٌ مُسلمٌ والثّاني مَسيحيّ لِتكتملَ اللُّعبَةُ ـ  أمّا الرّاقصةُ فتُنَقِّطُ شَرَفاً ، وتُمَنّي النَّفسَ بِأُسْرَةٍ سَعِيدَةٍ ، وَشَهْدِي النُّصرانيُّ الْمَظْلُومُ يُحاوِلُ يائِساً الدّفاعَ عَنْ نفسِهِ ضِدَّ أذْنابِ السّلطةِ ، ولا أملَ له سوى شجاعةِ نعيمة المسلمة ، التي تمثّلُ خِصالَنا العربيّةَ الحميدةَ ، ولسانُ حالها يردّد الآيةَ الثَّانيةَ والأربعين من سورة آلِ عُمران { وإذْ قالتِ الملائِكةُ يا مريم إنّ الـلهَ اصطفاكِ وطهَّرَكِ واصطفاكِ على نساءِ العالَمينَ } .
    وها هو قلمُ أنطوني ولسن قد اصطفى نعيمة الرّاقصةَ الطّاهرة لتتحمَّلَ المشقّاتِ ، وتقتحمَ السّجنَ ، وتُنقذَ البريءَ ، غَيْرَ عابِئَةٍ بِدينِهِ ، فالأُمومةُ العربيّةُ لا تفرِّقُ بينَ دينٍ وآخرَ ، ولن تفرِّقَ ما دامت تتبعُ قولَهُ تعالى { وَلَتَجِدَنَّ أَقربَهم مودَّةً للذينَ آمنوا الّذينَ قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قِسّيسينَ ورُهباناً وإنَّهم لا يَستَكبرون }  .
    ما أَشْرَفَها نعيمة عندما رفضت أن ترقصَ للرجال في بيتِها .. ما أعظمَها حين صاحت : " ألمظلوم في بيت الظالم ، والبريءُ في بيت المجرم " (3) .. وَما أَقواها حينَ تلقَّت ضرباتِ فتح اللـه القاتلةَ ببطولةٍ نادرة .. كانت تعلَمُ أنَّه يُريدُ قَتْلَ الشّاهدِ فِيها ليسَ إلاّ .
    الشّرُّ يحاولُ القضاءَ على الخيرِ .. أَو بكلامٍ أوضحَ : ألشرُّ البشريُّ يحاولُ القضاءَ على الخيرِ الإسلاميّ .. ولكن أنّى لَهُ ذلكَ ، والإسلامُ ما جاءَ إلاّ رحمةً لِلعالَمينَ .. وقد تألَّقَتْ تلـكَ الرّحمةُ الإسلاميّـةُ فِـي " العُمْـــدَةِ " ، الّـذي " يخافُ اللـهَ ، ولـم يظلِمْ أحـداً ، ولـم يأخذ مالاً حراماً أو رشوةً " (4) . وهذا العُمدةُ القدّيسُ في نظري ، هو والـدُ فتح اللـه " الفاسقِ ، السارقِ " (5). فسبحانَهُ أَللهمَّ في خَلْقِهِ : والدٌ قديسٌ وإبنٌ تَلبيسٌ .
    عُمْدةُ أنطوني ولسُن ، يجسّدُ الضّميرَ الإسلاميَّ الحرَّ المؤمنَ ، فعندما حاولَ ابنُهُ وَصْمَ النّصارى بالكُفْرِ " وما يَعرِفوش ربّنا " .. رفع يدَه وبكلّ قوّته نَزَلَ بها على وجهِ إبنِه فتـح اللـه وهـو يصرخُ قائـلاً : " مـَنْ أَنْتَ حتّى تقولَ   ( عنهم ) هذا القول " (6) .. ألَمْ يَقُل ربُّنا : { قُولوا آمنّا باللـهِ وما أُنزلَ إلينا ، وما أُنزِلَ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ والأسباطِ ، وما أُوتِيَ موسى وعيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ منْ ربِّهِم لا نفرِّقُ بينَ أحدٍ منهم ونَحْنُ لهُ مسلِمون }  وفي نفسِ الوقتِ وجدتُه أيضاً يُمثِّلُ الضّميرَ المسيحيَّ الحيَّ . فعندما وصفَ ابنُه الرّاقِصَةَ نَعيمَة بالفاجرةِ ، زجرَهُ أبوهُ قائلاً : إِخْرَسْ ، لا فاجرَ إِلاّ أنت !! وكأنّه بذلِكَ يردِّدُ قولَ النّاصِريِّ : مَنْ مِنكُمْ بِلا خَطِيئَةٍ فَلْيَرْمِها بِحجر . 
   ذكّرني العُمدةُ هذا بحادثتين جَرَتا مع الخليفةِ عُمرِ بنِ الخطّاب : الأُولى ، " عندما ذهبَ إلى القدسِ ووجدَ شيخاً هرِماً مِن أهلِ الذِّمَّةِ يتكَفَّفُ النّاسَ ، طلبَ والي المدينةِ وقالَ لهُ : أهكذا أمرَكُم ربُّ العالمينَ .. تأخذونَ منه الجِزْيَةَ في شبابِهِ وتترُكونَهُ فِي هَرَمِهِ عالَةً يتكفَّفُ النّاسَ ؟! فَأَمرَ له بمَعاشٍ من بيتِ مالِ المسلمينَ طِوالَ حَياتِهِ " (7) .
    والثانيةُ ، " عندما اشتكى إليهِ قبطيٌّ باعتداءِ عَمرُو بْنِ العاصِ ، حاكمِ مِصْرَ ، عليه . مبرّراً ذلك بأنَّهُ إبنُ الأَكرمينَ ، فحكمَ عُمَرُ بنُ الخطّابِ بِأَنْ يضرِبَ القبطيُّ إبنَ الأكرمينَ هذا كما ضَرَبَهُ ، وقالَ جملتَهُ المشهورةَ : "متى استعبدتُمُ النّاسَ وقد ولدتهم أمّهاتُهُم أَحراراً "(8). 
    أَلَمْ يقُل ربّنا تعالى: {يا أيّها الناسُ إنّا خلقناكُم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُمْ شُعوباً وقبائلَ لِتَعارفوا، إنَّ أكرمَكم عندَ اللـه أَتقاكُم}.. وهذا ما أثبتَهُ أنطوني ولسن في نهايةِ قصّته ، إذ نادى العُمدةُ المٌسْلِمُ شَهدي النصرانيَّ بِيا إبني. أي أنّه فضّله على ابنه الحقيقيِّ المجرمِ ، وطلبَ منه أن يذهبَ إلى دار عمِّه المَأذونِ الشّيخِ عاطف أبو الدّهب ، وَيأتِي به ليَكتُبَ كتابَ عارف على نعيمة . فَما كان من شَهدِي إلاّ القول : حاضر يا أبي العُمدة .. شرط أن أدفع كِلفةَ عرسِ منقذَتي نعيمة من حسابيَ الخاص . وبكلّ الأبُوَّةِ الإنسانيّةِ يُجيبُهُ العُمدةُ : بإذنِ اللـه يا شَهدي .. ما هِيَ أختُكَ بَرضُه " (9) .
  أجل يا أنطوني .. كلّنا إخوان . وخيرُ دليلٍ على ذلك ، هذه الوجوهُ النيِّرَةُ الّتي تمثّلُ جميعَ الطّوائفِ والأديانِ في زفّةِ عروسِكَ الليلةَ . وصدقَ الدكتور عصام حدّاد حين قال : كثَّرَ اللـهُ أمثالَ هذا المناضلِ الإنسانيّ ، ومسحَ يراعتَهُ بالخَصْبِ والعافيَةِ والبهاءِ " (10) . وشكراً .

ألمراجع :
1) فرسان الكلام ، توفيق يوسف عوّاد ، مكتبة لبنان 1980 ، ص ص 34-35 .
2) زفّة العروس ، أنطوني ولسن ، دار عصام حداد 1994 ، ص 6 .
3) زفّة العروس ص 11 .
4) زفة العروس ص 27
5) زفة العروس ص 27
6) زفة العروس ص 32
7) هل وقع القول ، أحمد قلاوون ، 9 ذي الحجّة 1410 للهجرة ، ص 16
8) إسلام ومحاورة أهل الكتاب ، د . زاهية قدورة ـ التلغراف  سيدني 4-1-1995 ، ص 9 .
9) زفة العروس ص 38
10) غلاف زفة العروس .