بين المتنبي ونعيم خوري

   صَحيح أن الشاعر نعيم خوري، ما زال ينتظرُ الخُرافة في كتابه "وكيف يزعل القمر"، ولكنّه، في الوقت نفسه يمتشق سيف الحقيقة، يتظلَّلُ شمسَ الْجُلْجُلةِ، ويُمَصمصُ سرابَ الهجر، ليتغلَّب على كلّ الخرافات، ويحفرَ هذا الإهداء الوفيَّ "إلى من كانت أجمل ما في الحياة، وأحلى ما في الحبّ"  عَلَى وُرَيقةٍ شَمخت في ديوانه وتباهت.
   أَضيعُ، وأنا أَقرأُ شعر نعيم، فالجمال الفني عنده، يسحر الألباب، يفتن النَّظر، ويجبرني على التَّنقلِ بين رياضه المُزهرة، دون إدراكٍ، وكَأنَّني مسيَّر وَلَستُ مُخيَّراً.. وصدق الأستاذ كامل المر حين قال: إن أسلوب نعيم خوري يحاكي أسلوب المتنبي.. وَهَا أنا أشرَحُ ما رمى إليه كامل بحوارٍ أسطوريٍّ بسيط، مطعَّمٍ بِأكادِميَّة سَمْحةٍ، تعانقتْ فيه حكم المتنبي والخوري، ليدرك القارىء.. كيف ولماذا تحاكى الأسلوبان؟! 
ألحِكَم 
ـــــــــــــــــ
    إشتهر أَبو الطيِّب الْمُتَنَبِّي بحكَمِه الكثيرَة، الَّتي عاشت وتعيش على ألسنة الناس بعفويَّة نادرة، وَلَولا حِكم المتنبي، لكانَ واحداً ليس أَكثر، من أُولئكَ الشُّعراء المصطفّين على أبواب الرزق، المتناسلين كالأرانب، الجشعينَ كالذّئاب، الموجودين في كل عصر، الثرثارين حدَّ القرف.. ولَكانت لغتُه اجترت نفسها قبل أن يجترها قلم، وَلَما نُقِشَتْ على نار هو انا كما يقول الشاعر نعيم خوري:
كل اللغات على نار الهوى نقشت،
إلا اللغات التي يجترها قلمُ
   وَلَست أدري لماذا تخيَّلْتُ المتنبي حَياً يرزق، يتَجَلْبَبُ عباءته، يُسرجُ فرسـه، ويُيَمِّمُ وجهه ناحيــة "غرانفيل"، ليسأل الشاعر نعيم خوري عن الحبيبة الغائبة الحاضرة، التي أهداها في أقلِّ من سنتين أَربعةَ دواوين شعرية.. وكيفَ يعيش بدونها؟ .. فيجيبه الخوري: 
إن كنت أكتم في العينين ولولتي
فإنّما الحبّ، أحلاه، بِما كَتَما
  فتمتلىء عينا المتنبي بدموع حبسها لسنوات، ويجهد في استرجاع  قواه وذاكرته، ويهتفُ:
حَبيبٌ كأن الحسنَ كان يحبّه
فآثرهُ أو جار في الحسنِ قاسمُه
ولكنّه يخجلُ من نظرات نعيم الواثقة المثقّفة، إذ أنه لـم يقل هذا البيت لحبيبته، بل لسيف الدولة الحمداني.. ويُدرك أن الخوري لن يرحمه في مديحه الوصوليّ هذا، فَيعود إلى محاورته بانكسار، ويسأله عن الحبِّ،  هلْ هو حقيقة، أم مجرّد أحلام؟ .. فيجيبه نعيم:    
وأوّل الحبّ أحلامٌ، وآخره
صوتٌ يطنّ على الدنيا ويسرقها
  يتنهد المتنبي للحظات، يردِّدُ البيت عدَّةَ مرّات، ثم يخرج وريقة رثَّةً من زنّار جبّته وهو يتمتم: "هذه إحدى رسائل حبيبتي، عمَّة سيف الدَّولة، التي أبعدتني النَّميمة عنها.. لعن الـله الحسّاد، وعلى رأسهم أبو فراس الحمداني.. كم كان عفريتاً هذا الشّاعر، وكم سعى لدى ابن عمّه ليحرمني لقاءَ حبيبتي.. بربك، أليس هذا كفراً؟. فيطيِّبُ نعيم خاطره بحكمة بريئة تفسِّر نفسها بنفسها: 
عُصْفُورَتانِ، على غصنين ما التهتا،
إلاّ وزقزق عفريتٌ على الشَّجرِ.
فيهدأ المتنبي قليلاً ويقولُ: أنا لستُ متضايقاً من ثرثراتهم، ولكنها هي سبب ضيقي، فلقد ماتت وأنا في منفاي.. أفٍ كم أنا حزين".. وَكَمْ يَحْلُو لِي القول:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمرُّ به الوحولُ
فيحتضنه نعيم بمحبّة ويهمس في أذنه:
قّدْ قيل في الضيق، بعض الضيق مختبرٌ
للعنفوان.. وبعض الضيق للفرجِ
 ولكنك، يا نعيم ، قال المتنبي، تعيش في عصر غير عصري، وتتعامل مع ناسٍ غير ناسي، وطموحك قناعة عكس طموحي.  نحن ، يا صديقي الشاعر، كنا نعيش على الفخر، نتباهى به، نسترزق منه، نوظّفه لأغراضنا، أَلَمْ تَقرأْ ما قلت:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
  بَلَى قرأته، أجابه نعيم، وقرأت أنه سبَّب في قتلك أيضاً.. فينتفض المتنبي ويصيح: 
وما كل سيفٍ يقطع الهام حدّه
وتقطع لزْبات الزمان مكارمه
    ما بِك، يا سيِّد الشُّعراء، قال نعيم، إني أراك سريع الغضب، هوِّن الأمور تفرج. فيتزايدُ غضب المتنبي ويزمجر:
مَنْ يَهُنْ يسهل الهوان عليه
ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
عندئذ أدرك نعيم، أن عليه واجب الترفيه عن ضيفه، فقدّم له فنجان قهوة مرَّة وسيجارة، وأسمعه آخر ما كتب:
إني ألفك منديلا على لغتي،
لا يفهم الحب لوطيّ ومنحرفُ.
فقهقه المتنبي طويلاً وصاح:
كل شيء من الدماء حرام 
شربه ما خلا دمَ العنقودِ
وَمِنْ أَيْنَ أنت؟ سأله المتنبي وتابع: دعني أخمِّن.. من لهجتِك وعُنفوانك، يتبيّن لي أنك من الكورة..
    وَمن بطرام بالذّات، قاطعه نعيم.
فاحمرت عينا أبي الطيِّب، وانتقل إلى عالـم آخر، كأنَّ غيبوبة لفَّته، أو وحياً  نزل عليه فجأة.. وما هي إلا لحظات، حتى انتفض صائحاً: لماذا لـم يؤمنوا بي وبنبُوَّتي... ولماذا حاول أهل "النخلة" جارة "بطرام" سفك دمي.. لقد حاولت شرح عقيدتي ولـم يأبهوا بي.. ألـم تقرأ ما قلت: 
ما مُقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهودِ
   لا تصدِّق، يا نعيم، تفسير الدكتور عبد الوهَّاب عزّام، من أن "النخلة" هي "دار نحلة" الموجودة في الشام.... إنها واللـه "نخلتكم" وقد شيَّبني أهلها، ونكَّلوا بي بسبب نبوَّتي الكاذبة، على حـدِّ تعبيرهم.
    رسم نعيم ابتسامة هزءٍ على شفتيه وقال:
كم نبيٍّ قبلَ تاريخ السَّما
قد خلقناه بحرفٍ أبجدي
    حتّى أنت يا بروتس، صاح المتنبي، وَربِّ السَّماء، لأركبنَّ فرسي وأرحل، ولن ترى وجهي بعد اليوم:
أبداً أقطع البلاد ونجمي
في نحوس وهمّتي في سعودِ
   لا تغضب، يا سيِّدَ الشعراء، قال نعيم: ولكننا في مهجرنا هذا لا نراوغ، سلني ما شئت شرط أن تبقى في ضيافتي، فزيارتك تاريخيّة، ومسامرتك سعادة.. وصدِّقني إذا قلت: إنك حصدت من المجد والشهرة ما لـم يحصده نبي.
   فانفرجت أسارير المتنبي، وقال: هات كتابك الأخير لأتصفّحه، ولأصطاد بعض حكمه.. 
... خبّأته في العيون الشهلِ ساهمة،
ما أجمل الحبّ سرّاً ليس ينفهمُ
رائع يا نعيم، وأروع منه هذه:
... سَلي جمالك، إني لا أجرّحه،
هل يجرح الضوء إلا حين يحتجبُ؟
وكم كنت أتمنى لو كنت القائل:
... فَأَجمل الصيف أن يرخي ضفائره
لتمسح الحَرّ، أو تجتاحه السحبُ.
عظيم يا ابن الكورة عظيم.. بربك لا تقاطعني، دعني أتلذَّذ:
... الحبّ مثل الريح، لا يرتاح منغلقا،
وأجملُ الحبِّ أن يسمو وينطلقا.
هذا الشعر يحاكي شعر أبي النواس، وإن تشامختَ حكمةً:
... لا ينتقي الإلماسُ إلا ما يشابهه
أو يعشق الدرّ إلا صنوها الدرر
وهذا يحاكي شعري أنا، وإن قلتَه بعد ألف سنة ونيّف:
... أحلى الشموع إذا ضوأتها نزفت،
ولا تضيء شموعٌ لا تذوب ولا..
أما هذا فأقرب ما يكون إلى شعر أبي العتاهية، ولكنه أقرب إلى النفس من ذاك:
... فإن تحوَّلَ رب الحبّ طاغية 
ينسى الإله، وتنسى شكله الكتبُ.
 بأبي أنتَ وأمي، لو لـم أكن أقرأ في كتابك، لقلت إن هذا البيت لضرير المعرّة:
... ما عدتُ أغبط في الدنيا سوى صنم 
طاغٍ على الأرض.. إلا أنه صنمُ.
      أمّا هذا، فلا يحاكي شعر أحد، إنه نسيج وحده، أقدر أن أتنشَّقَ منه رائحة الحرّية التي تتمتعون بها في مهجركم الأسترالي. ولو خُيِّرتُ بين البقاء ميتاً، والعودة الى الحياة، لاخترت العيش بينكم، فلا شيء يشدّ الشعر إليه كالحرية.. وصدّقني ان لا ممالك للشعر، لا من النيل الى الفرات، ولا من سيدني إلى بطرّام، فكل عين تقرأ هي مملكة الشاعر، وكل قلب ينبض هو جنة الشاعر، وكل عقل يستوعب هو حلم الشاعر.. وإذا كنت تكتب بالعربية، فهذا لا يعني انّ شعباً  معيّناً تفرَّدَ بك، إنك للناس، بكل طبقاتهم، بكل لغاتهم، وإن لـم تكن هكذا لَما جئتُك اليوم. إلى اللقاء، يا عزيزي نعيم، فلقد حان وقت رجوعي.. إلى حيث البكاء وصريف الأسنان.
   والآن، عزيزي القارىء، ألا تقول قولي، بأنَّ الاستاذ كامل المر، رئيس رابطة إحياء التراث العربي كان على حق حين قال: إن أسلوب الشاعر نعيم خوري يحاكي أسلوب المتنبي... حِكْمةً .. بَلَى واللـه.

المصادر :
1- وكيف يزعل القمر ـ نعيم خوري ـ منشورات دار الثقافة ، سيدني 1994
2- ديوان أبي الطيِّب المتنبي ـ شرح الدكتور عبد الوهّاب عزّام ـ دار الزهراء 1978
3- المتنبي .. شاعر يجلو مقلتي نسر ـ محمد زهير الباشا ـ أميركا 1993
4- شعرنا الحديث .. إلى أين ـ الدكتور غالي شكري ـ دار الآفاق الجديدة 1978