كانت تجلس على شرفة منزلها، ويدها الناعمة تسند خدّها الناضج كتفاحة حمراء، قطفها لتوّه فلاح لبناني، ما تعوّد يوماً إلاّ على الرزق الحلال.
وكان أخونا يوسف مارّاً بطريق الصدفة من أمام منزلها في إحدى مناطق سيدني، المكتظّة بأبناء الجالية اللبنانيّة، فسحرته بجمالها الفتّان، ونفذت إلى حنايا قلبه نظراتها الخلاّبة. كما أثّر به كثيراً حزنها المرسوم على قسمات وجهها الطفولي، وكأنها (موناليزا) جديدة من لحم ودم.
حاول أن يلفت انتباهها بشتّى الطرق والأساليب، فتنحنح أوّلاً، وسعل ثانياً، وزحط ثالثاً، حتى كاد يفكّ رقبته، وحضرة جنابها ما زالت شاردة في عالـم غير هذا العالـم، تأرجح نظرها على أراجيح أفق لا يحدّه نظر.
وفجأة، خطرت على باله فكرة اعتبرها رائدة في عالـم اصطياد الصبايا. ألا وهي فكرة الغناء تحت الشرفات، فوقف قبالتها رافعاً يديه، كما كان يفعل زميله روميو مع حبيبته جولييت، وصاح بصوت عالٍ كأنه دوي طائرة نفّاثة اخترقت جدار الصوت:
ـ أنا الأم الحزينة..
وقبل أن يكمل المقطع الثاني من الترنيمة الشهيرة، أجابته بصوت أعلى من صوته وأبشع:
ـ ليت أمّك هي التي تحزن عليك..
فصعد إلى سيارته، وأطلق لدواليبها العنان، وأنا ألاحقه دون أن ينتبه لي، وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدته في شارع آخر، يطارد فتاة أسترالية، هي تسير على الرصيف، وهو يلاحقها، تارة يتغزّل بقوامها المياس، وطوراً بشعرها الذهبي الناعم، دون أن تأبه به، أو تلتفت إليه، ومع ذلك أصرّ على ملاحقتها غير عابىء بثقل دمه، أو بلغته الإنكليزية المكسرة، أو باقترابها من مكان سكنها، فصاحت به:
ـ أرجوك.. اتركني بحالي
ـ لا أقدر.. لقد أحببتك من النظرة الأولى..
ـ من غير المجنون يحب من النظرة الأولى فتاة لا يعرفها؟
ـ نحن العرب نحب هكذا؟ قيس أحب ليلى من النظرة الأولى، وعنتر أحب عبلة، وروميو أحب جولييت، وأنا أحببتك..
ـ روميو وجولييت ليسا عربيين؟
ـ صحيح، ولكن كاتب قصتهما عربي.
ـ هل لي أن أعرف اسمه؟
ـ إنه الشيخ إسبر
ـ أتقول عن شيكسبير هكذا؟ أنت إرهابي!
ـ أنا.. أنا..
ـ أهرب.. أحسن لك..
ـ لا لن أهرب.. لقد أحببتك، وسأحارب من أجل الحصول عليك.
ـ قلت لك أهرب.. وإلاّ
ـ وإلاّ ماذا؟!
ـ سأنده زوجي لتأديبك يا روميو العروبة.
فانشقت الأرض وابتلعته.
ذكرتني هذه الحادثة بيوم وصولي إلى أستراليا عام 1971، فلقد عملت ليلاً ونهاراً من أجل شراء مسكن يأويني في غربتي، دون أن أتعرض للطرد من قبل المالك، أو دون أن أنتقل من بيت لآخر كالمنبوذين، وبعد تسعة أشهر فقط حققت حلمي، وما زلت أعيش حيث حققت الحلم. أما اليوم فأجد، وللأسف، شبابنا المهاجر يعيش عالة على المجتمع، يستدين المال من هذا، ليسدده لذاك، همه فقط إرضاء نزواته وإطفاء شهواته، وإذا أسديت له النصح، دون أن تأخذ منه جملاً، يهزأ منك، لا بل يزدريك، ويصيح:
ـ سأعيش مرة واحدة، ومن بعدي الطوفان.
أجل، سنعيش مرة واحدة، ولك علينا أن نعيش كباراً، وأن نموت كباراً، وإلا ما نفع مجيئنا إلى هذه الفانية؟