دعاني صديق مقرّب لتناول طعام الغداء في أحد النوادي الرياضية، وكوننا وصلنا الى هناك قبل دقائق من أن يفتح المطعم أبوابه، سألني إذا كنت أحب رؤية صالة "البوكار ماشين" الفخمة المزودة بأفضل وسائل الراحة وأحدث آلات القمار العالمية.
وما أن دخلنا الصالة حتى سمعنا إحدى النساء تصرخ: هذا الرجل يبول "يشخ" تحته، كي لا يفارق آلة "البوكار ماشين" المفضلة عنده.
وتراكض بعض الموظفين نحو الرجل المسكين بغية إقناعه بالدخول الى الحمام أو الذهاب الى البيت، ولكنه رفض أن يتزحزح من مكانه، علّه يعوّض بعض خسارته.. فما كان منهم إلا أن جرّوه خارجاً، وطلبوا منه عدم العودة الى النادي وهو على هذه الحال.
هذا ما حدث أمام عينيّ، حاولت أن ألتقط بعض الصور، ولكنهم منعوني، لا بل صادروا هاتفي النقال الى حين انتهاء المأساة.
قلت عنها "مأساة" لأنها فعلاً كذلك.. كيف لا، والرجل من خلفية عربية، والمرأة التي صاحت عندما رأته يبول من خلفية عربية أيضاً، وقد تشمئزّون أكثر إذا أخبرتكم أن تسعين بالمئة من روّاد تلك الصالة كانوا عرباً أقحاحاً.
والرجل المأساة ليس فتياً كما قد تعتقدون، بل هو جدّ، وعنده دزينة أحفاد صغار، كان من المفروض أن يكون قدوة أخلاقية لهم، لا أن يريهم نفسه في أتعس حالاته، يجر أذيال خيبته ورائحة بوله تفوح منه.
هناك الآلاف من أبناء جاليتنا يبولون في ثيابهم كي لا تفوتهم معاشرة عشيقتهم "البوكار ماشين": هي أفضل، بنظرهم، من المرحاض، وأرفع شأناً من الكرامة، وأغلى من كل أموالهم.. وإن أوصلتهم الى التسوّل في الشارع.
وقد تتعجبون إذا أخبرتكم أن النساء مدمنات عليها أكثر من رجالهن، فإن تأخروا في الذهاب الى النادي تقوم قيامتهن في البيت، ولا تهدأ، إلا إذا زقزقت عصافير "البوكار ماشين" وزأرت أسودها كما لم تزأر أسود غابات أفريقيا. إنها آلات مموسقة بطريقة سحرية تخدّر العقل وتجعله عبداً لها، لا بل تجبر صاحبه على معاشرتها مجدداً بغية التنعّم بتلك الموسيقى الرهيبة.. تماماً كما يتنعّم القرد بلحس دمه؟
إنها، باختصار شديد، جهنم أرضية تحرق الأموال، وتفني الأعمار، وتهدر الكرامات، وتدمر العائلات، وما من ضمير يردع.
أعرف الكثير من العائلات المفككة بسبب القمار، وأعرف أطفالاً ناموا في الشوارع، لأنهم طردوا من منازلهم بعد أن فشل آباؤهم بتسديد أقساط البنوك الشهرية التي أودعوها محرقة "البوكار ماشين".
نوادي القمار أرحم منهم على عائلاتهم، إذ تضع أمامهم أوراقاُ مطبوعة تشرح لهم مدى الضرر الذي سيلحقهم من تعاطي القمار، وأن لا حظ لهم في الربح إلا بمعدل واحد في العشرة ملايين.. ومع ذلك يواصلون اللعب بأفواه فاغرة وآذان مسدودة وقلوب متحجرة.
كان والدي، رحمه الله، يقول لي: "الانسان عدو نفسه"، وكنت أهز رأسي موافقاً، دون أن أعلم أنني، في يوم من الأيام، سأعاين أناساً ليسوا أعداء أنفسهم فحسب، بل أعداء كل من اتصل بهم بقرابة أو صداقة أو معرفة.. إنهم أعداء الله.