هل التقطت صورة مع أحد المسؤولين؟

ما أن يأتي مسؤول ما من بلادنا، أيا كانت تلك البلاد، حتى نرى صفاً طويلاً من المتهافتين لالتقاط الصور التذكارية معه، وتقبيل يديه، وتكحيل عينيه بأغلى الهدايا، والتبرع له بمبالغ مالية كبيرة تُجمع من الأرامل والمساكين والمتقاعدين عن العمل، وكأنه ملاك هبط فجأة من السماء.
والمضحك المبكي في الأمر أن أحد أهم أسباب هجرتنا وانسلاخنا عن أوطاننا هم هؤلاء المسؤولون الجشعون الذين نطبّل ونزمّر لهم في بلاد لا يطبّل شعبها لأي مسؤول فيها.. عنيت بها أستراليا.
تذكرت هذا بعدما التقيت رجلاً لبنانياً عجوزاً جالساً على مقعد في أحد التجمعات التجارية، فشدني تطلعّه الصارم في بعض الصور التي يقلّبها بين يديه للجلوس قربه. وبعد لحظات التفت إليّ وقال: 
ـ إستاذ شربل.. إنّي لا أراك في هذه الصور.
ـ أتعرفني؟ أعتذر، لم يحصل لي شرف معرفتك.
ـ أنا فلان الفلاني.. عم أحد المسؤولين اللبنانيين الكبار الذين زاروا سيدني مؤخراً.. وقد التقطت له آلاف الصور مع آلاف المدعوين.. ولكنني لم أرَ وجهك في إحداها على الاطلاق.
ـ ولن تراه..
ـ أتريد أن تضحك؟..
ـ تفضّل..
ـ بعد عودة ابن أخي المسؤول الى الوطن، قررت أن ألحقه لتخليص إرثنا العائلي قبل فوات الأوان، فوجدت أن الإرث قد طار.. ولن أخبرك من ابتلعه..
ـ إبن أخيك..
ـ المهم.. حملت هذه الصور التي تراها بين يديّ، والتي تجمعه بوجوه عديدة من الجالية، ورحت أسأله: أتعرف من هذا؟.. أتذكر هذا الوجه؟ وكان يهز رأسه علامة النفي.. أي أنه لم يتذكّر إسماً واحداً من كل الذين هرعوا لالتقاط صورة تذكارية معه.
ـ ولماذا تحمل الصور الآن.. وتتطلّع بها طوال الوقت؟
ـ للتسلية.. أريد أن أتسلّى.. هذه الصور تضحكني كثيراً.. 
ـ لماذا..
ـ لأنها تريني تفاهة البعض في بلاد لم تنقذنا، رغم ديمقراطيتها المفرطة، من تزلمنا لزعمائنا هناك، من طائفيتنا المقيتة، أو من تراكضنا نحو قبور يحفرها لنا ولأهلنا في الوطن زعماء أشرار، لا تليق بهم سوى اللعنة.
ـ إذا جاء ابن أخيك مرة ثانية ماذا ستفعل؟
ـ لن يأتي.. لقد شتمته بسبب الإرث.. إنه مسؤول لص... حرامي.. أتعرف ما معنى حرامي.
ـ أعرف.. كلهم هكذا.. ونحن نطبّل لهم، ونتبرّع لهم، ونتزلّم لهم.. 
ـ أكتب يا أستاذ عن لساني: بدلاً من أن تصيّرنا أستراليا بشراً كباقي البشر، رميناها في أتون التزلّم الأعمى والتعصّب الطائفي والجهل المدقع.
وعندما وجدت أن ضغط دمه قد بدأ بالارتفاع تركته، لا خوفاً عليه، بل هرباً من  الشتائم التي تتطاير من شفتيه كطلقات رشاش أوتوماتيكي، ولسان حالي يردد: لماذا نحن بلهاء الى درجة يضحك بها علينا زعماء أشرار، رغم أننا نعيش في بلاد تبعد عنهم آلاف الأميال؟ 
هل التزلّم للآخرين من العادات التي لا يمكن الاستغناء عنها؟
وهل فشلت أستراليا في زرع حريتها المطلقة في نفوس تأبى إلا أن تعيش عبوديتها المؤلمة؟
هذا ما يحيّرني حقاً.