أجل، لقد علّمت أمي القراءة والكتابة

لولا سفر أخي الاكبر أنطوان الى أستراليا، لما علمت أن أمي تقرأ وتكتب بصعوبة بالغة، شأنها شأن معظم نساء ذلك الوقت. فلقد كانت، رحمها الله، تتفحّص فروضي المدرسية بعينين جائعتين وتصرخ:
ـ شربل.. راجع فرضك جيّداً، قبل أن تذهب الى اللعب.
وكنت والحق أقول أحترم "معرفتها"، فأراجع فرضي مرة ومرتين، قبل أن أرميه مجدداً بين يديها الطاهرتين كي تتفحّصه من جديد، وأسمعها تقول:
ـ الله يرضى عليك وعلى إخوتك.. بإمكانك أن تذهب الآن.
قلت "إخوتك" ولم أقل "أخواتك" لأن الله رزقها بستة شباب: أنطوان وجورج وجوزاف وشربل وميشال ومرسال، لذلك كانوا ينادونها في بلدتي مجدليا بـ "أم الست شباب".
كانت الأمور التعليمية تسير كما يحلو لوالدتي "بترونله"، إلى أن نادتني الى مطبخها المتواضع الفقير القابع في قبو المنزل، إثر استلامها رسالة من أخي المغترب أنطوان، وهمست كي لا يسمعها أحد:
ـ سأغضب عليك اذا فضحت أمري..
ـ ما بك يا أمي قولي؟
ـ أريدك أن تستمع إلي وأنا أقرأ رسالة أخيك، وأن تصحح لي أخطائي..
ومن ثم ستعاونني على كتابة الجواب.
فصحت بأعلى صوتي:
ـ أمي.. ماذا تقولين؟ أنت معلمتي.
ـ كنت أتظاهر أمامك بأني معلمة، كي لا يقاصصك أحد المعلمين.
وكطفل صغير غمرت يديها الاثنتين ورحت أقبلهما وأبكي.. وهي تربّت على ظهري وتقول:
ـ لا تخف، سأتعلم بسرعة.
ولم تتعلّم أمي بسرعة إلا عندما سافر أخي جورج، فلقد وجدت أن حبّات "مسبحة" عائلتها بدأت تتطاير في كل مكان، وأن عليها أن تقرأ وتجيب على أكثر من رسالة.
وما أن بدأت بنشر قصائدي الثورية في الصحف والمجلات اللبنانية، حتى بدأت أمي تراجع حساباتها، وتقول في سرّها "ماذا لو سافر ابني شربل؟"، وبدأت تطالبني بدروس كتابية أكثر، لأن قراءتها أصبحت مقبولة، إلى أن تحقّق ظنها. فلقد نشرت باللغة العامية اللبنانية عام 1968 ديوان "مراهقة" الذي لاقى استهجاناً شديداً من بعض المتزمتين أخلاقياً ودينياً بسبب إباحيته الفاضحة، حسب تعبيرهم، مما ساعد في شهرتي وأنا في السابعة عشر من عمري.
بعده بسنتين، أي عام 1970، نشرت ديواني الثاني "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة"، ألحقته مباشرة في الصحف والمجلات وعلى حلقات ديوان "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط "، مما حدا بحزب "24 تشرين" لدعوتي لإلقاء أمسية شعرية في مقره بمدينة طرابلس، جاءت قاضية على مستقبلي المعيشي في لبنان، بسبب مطاردة خفافيش المخابرات لي، وتهديداتهم المتواصلة، فحملت حقيبتي ورحلت الى سيدني أستراليا في أواخر عام 1971.
هنا بدأت أقطف ثمار ما زرعت، فلقد وصلتني أول رسالة بخط أمي وإمضائها تقول في مطلعها:
" مجدليا في 2 كانون الأول 1972
إبني الحبيب، ومعلمي الأحب، قرة عيني شربولتي..
أشكر الله تعالى أنني أمنتك على سري، يوم أخبرتك أنني أقرأ وأكتب بصعوبة بالغة، وها أنا، بفضل الله وفضلك، أكتب إليك أول رسالة، أرجو أن تصحح لي أخطائي الاملائية، وتخبرني عنها كي أتلافاها في رسائلي المقبلة.
ستبقى معلمي وإن بعدت عن ناظري، وسأظل أتلقى دروسك البريدية إلى أن تقول لي: مبروك يا أمي لقد نجحت في الامتحان."
واسمحوا لي بعد أكثر من 44 سنة، وبعد أن غيّبها الموت، أن أقول لها والدموع تحرق خديّ:
ـ مبروك يا أمي، لقد نجحت في الامتحان.