تعرف (إيلاف) كيف ومتى تثير الشجون، وتنكأ الجراح، وتوقظنا من غفوة أهل الكهف التي ابتلينا بها أدبياً، بعد أن سقطت بيروت، وأطفئت منارتها الثقافية، وديست بأقدام همجية طائفية، قتلت فيها الإبداع، ورمت مثقفيها ومثقفي الأمة العربية، الذين التجأوا إليها، هرباً من اضطهاد أنظمتهم القمعية، بضياع مر، ما زلنا نشمئز من مرارته رغم اندثار السنين واندحارها.
لقد كانت بيروت، ولسنوات طويلة، (ست الدنيا) بأعين الشعراء العرب، فيها يتغنون، ومنها ينطلقون إلى عالم الإبداع والشهرة، فلولاها لم يكن نزار قبّاني كما قدر له أن يكون، حتى ولا أدونيس. هي التي فرشت دربيهما بالمجد، ومدتهما بنسغ حريتها. فأصبح لصوتيهما رنين، ولطلتيهما هيبة. وما قلته عنهما أقوله عن العشرات من شعرائنا ومثقفينا الذين احتنضتهم، وأرضعتهم حليب مجدها دون منة أو مقابل.
الفكر العربي من المحيط إلى الخليج كان ينظر إلى بيروت نظرة حب وإعجاب، ويتلهف لملاقاتها، عله يغيّر، بمساعدتها طبعاً، ما وجب تغييره في وطنه الأم، مما أوغر صدور الحكام العرب عليها، واعتبروها شراً يجب التخلص منه، قبل أن يطيح بهم، وكان لهم ما أرادوا.. فاجتاحتها حروب الآخرين على أرضها، وأطفأت نوراً أضاء الشرق كله، لدرجة أصبح معها هذا الشرق التعيس يفتّش عن عود ثقاب ليشعل شمعته فلا يجده في ظلام كريه مفتعل.
فإذا كان صالون مي زيادة الأدبي قد أنار سماء القاهرة، وجعلها المكان ـ الموئل ردحاً من الزمن، وإذا كانت الرابطة القلمية قد حوّلت مدينة (بوسطن) الأميركية، مدينة ثقافية عربية بكل ما للكلمة من معنى، فإن مجلة (شعر) التي أطلقها يوسف الخال، قد جعلت من بيروت قبلة الحداثة العربية، منها يبدأ التغيير، وعلى صفحاتها يتراقص الإبداع، وتشرئب الأسماء المتمردة الهاربة من مدنها العربية المعتقلة، لتعلن العصيان على الرتابة والخمول.
وإذا كان لكل جديد رهجة، كما يقول المثل الشعبي، فلقد ثوّر جديد مجلة (شعر) النقاد العرب، منهم من رفع راية الشعر الكلاسيكي، وأدمى شفتيه وأصابعه من أجل الدفاع عنه، ومنهم من اعتنق الحداثة مذهباً، وأبى أن يؤمن إلا بها. وهل أفضل من بيروت عاصمة لبنان، البلد العربي الديمقراطي الوحيد، لاحتضان مثل هذه الثورة الرائدة؟ بالطبع: لا.
رغم أنني اكتفيت بذكر بيروت، كوني عايشت تلك الفترة الذهبية التي مرّت بها ثقافتنا العربية عبر تلك المدينة المشتتة، التي ما زال المفكرون العرب يحلمون بملاقاتها، والتغني بها، ولكنني في نفس الوقت أؤمن أن سقوط بيروت لم يكن السبب في سقوط الثقافة العربية، أو الشعر العربي بالتحديد، إذ أن الشعر العالمي، وقبل نكبة بيروت، بدأ يعلن إفلاسه، وبدأت دور النشر العالمية تمتنع عن نشر دواوين الشعراء لعدم إقبال القراء عليها. وكيف يقبلون عليها وقد استنفد الشعر جميع مدارسه، ولم يبتكر الشعراء الجدد نمطاً جديداً يكون قادراً على تثوير النقاد، واجتذاب القراء، كما فعلت الحداثة الشعرية في القرن الماضي. كل شيء أصبح تقليدياً وتراثياً من (الخيل والليل والبيداء تعرفني) إلى (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع).
من هنا نقدر أن نستنتج أن المكان لم يسلط الضوء على الإبداع الفكري المتفجر في أرجائه، بل أن إبداع مفكرينا هو الذي سلط الضوء على المكان، ورسمه منارة جعلت المتلقي يحفظ اسماء المدن، لوحدويتها، وينسى أسماء مبدعيها لكثرتهم، فتغلب بذلك اسم المكان على أسماء مبدعيه.
ولأوضح الصورة أكثر: هل انطفاء (بوسطن) في الذاكرة الثقافية العربية كان السبب في انطفاء الرابطة القلمية، أم أن تناحر أعضاء الرابطة وتشتت شملهم هو الذي أطفأ شعلة (بوسطن) في ذاكرتنا؟.
المدن لا تتحرك، لا تتكلّم، ولا تبدع، بل أن هناك مبدعين يتألمون بها، فإذا ارتفع صوت ألمهم ارتفع صوتها، وإذا صمتوا صمتت، ولم يسمع أحد بها أو بساكنيها.
وكي لا أغبن المثقفين العرب، أجد أن الثقافة العالمية تبحث أيضاً عن مكان لها، بعد أن تخلت عنها جميع الأمكنة، فلولا بعض الكتب السياسية التي تلاقي رواجاً بسبب ارتباط السياسة بالناس، لم نجد كتاباً ثقافياً واحداً سلطت الأضواء عليه، وأحدث ضجة إعلامية باستثناء روايات (هاري بوتر) الطفولية.
اعطوني مدرسة أدبية جديدة، لأعطيكم اسم مكان جديد يتفاعل فيه روّاد هذه المدرسة، وينقل بريق إشعاعهم عبر أحرفه، فيحفظ المتلقون اسمه، وينسون اسم مبدعيه.
قد يكون وجود هذا المكان ـ الموئل من سابع المستحيلات، بسبب الشتات الذي يعيشه معظم المثقفين العرب، منهم من يقبع في السجون العربية، ومنهم من يتأفف من ضباب لندن، ومنهم من يتألم في باريس، ومنهم من يعمل ليقتات في نيويورك أو سيدني أو غيرها من المدن، ولا شيء يجمعهم إلا خطوط لا مرئية إسمها الإنترنت، بها يلتقون ويتفاعلون، وعلى صفحاتها ينشرون، ومن ثقافتها ينهلون، هي كل شيء بالنسبة لهم، ولم تعد تهمهم بيروت، أو القاهرة، أو بغداد، أو الخليج، أو لندن أو غيرها، طالما أن بإمكانهم أن يصلوا إلى قراء تلك المدن ساعة يشاؤون، وبأقل كلفة ممكنة لهم وللقراء. أفلا يحق لي إذن أن أقول: أن المركز الجديد للثقافة العربية هو الإنترنت، ولكن يلزمه الإبداع.. وإلاّ سنبقى نراوح مكاننا، ونجتر أعمال أسلافنا، فنضجر من كتاباتنا.. ويتثاءب القارىء.. وبعد لحظات يشخّر.