ـ1ـ
قديماً، كان الشعر ديوان العرب، لا يتقدمه فن من الفنون، ولا يجاريه أدب، وكانت القصائد تحفظ عن ظهر قلب، وتعلّق بالأماكن المقدسة، ليقرأها الحجاج ويتنعموا بها، كي لا أقول: يتباركون، وتقوم علي قيامة البعض، فسميت من جراء ذلك بالمعلقات. وكان الشاعر صوت قبيلته، وحامي شرفها من الضياع، فإذا ناح، كالخنساء، ناحت، وراحت تبكي قتلاها:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسي
ولو قتلت سيدة الرثاء العربي نفسها، في ذلك الحين، للحقها إلى عالم الموت نصف دزينة من رجال ونساء قبيلتها المعجبين بها، والمحزونين عليها وعلى شاعريتها، التي تعتبر ملكاً حلالاً لكل واحد منهم، ويجب عدم التفريط بها.
ـ2ـ
وإذا تفاخر، كعمرو بن كلثوم، تفاخرت قبيلته، وراحت تناطح السحاب تبجحاً، وتتغنى كما تغنى:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ـ3ـ
وإذا حض على القتل، كما فعلت دختنوس إبنة لقيط بن زرارة سيد تميم، وقـد قتـله بنو عبس، حين توعدت قتلة أبيها بالموت:
لنجزيكم بالقتلِ قتلاً مضعَّفا
أو إذا جعل الحيوانات الكاسرة تضحك، والطيور تشبع، كما فعل الشاعر الصعلوك تأبط شراً:
تضحك الضبع لقتلى هذيلاً
وترى الذّئب لها يستهلُّ
وعتاق الطّير تغدو بِطاناً
تتخطّاهم فما تستقلُّ
فاعلموا أن أنهاراً من الدماء ستجري بين القبائل المتناحرة، إلى أن يرزقها الله شاعراً إنسانياً واعياً، كزهير بن أبي سلمى، يكره الحرب، ويندد بها، ويهتف بأعلى صوته:
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
ـ4ـ
أما إذا خانته قريحته الشعرية، وهذا أبغض الأشياء عند القبائل، خارت عزائمها، وراحت تتلطى وتتنقل من مكان لآخر، مخافة التشهير بها، وراح شاعرها المهزوم يلعق جرح خيبته، ويشيح بوجهه عن أعين الغاضبين من أبناء عشيرته، هذا إذا لم يهجر القبيلة ويهيم على وجهه.
من هنا بدأت رحلة البؤس عند الشاعر، ولم تتوقف إلى يومنا هذا، وكان أشهر ضحاياها شاعر الشعراء المتنبي، الذي مدح سيف الدولة، ليهجره بعد طمع وحب، ومدح كافور الأخشيدي ليشتمه ويهرب بعد خلاف، ولكنه ما أن كال المديح لنفسه، حتى وقّع، دون أن يدري، على صك وفاته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وبما أن حكايته مع هذا البيت القاتل مشهورة، اسمحوا لي أن أتخطاها.
ـ5ـ
ومن منا لا يعرف قصة شاعرنا (الأصمعي) مع الأمير البخيل، الذي تململ الشعراء وتذمروا من كثرة الوقوف على بابه بغية الحصول على حفنة من المال تكفي لسد جوع أبنائهم دون جدوى، وكان سموه يعبد الدينار، ويأبى أن يهبه لأحد، إلى أن جالت في دماغه الفارغ فكرة استغلال الشعراء، والتنعم بمديحهم، دون أن يدفع لهم، فأعلن أنه سيمنح الشاعر الذي يمدحه ثقل قصيدته ذهباً، إذا لم يحفظ هو أو جاريته القصيدة، فهوى الشعراء كأوراق الشجر الخريفية، أمام ذكاء جاريته، وسرعة حفظها للشعر، ولم يبلوا ريقهم بنقطة ماء من غدير أميرهم المجفف، إلى أن جاء (الأصمعي)، أذكى شعراء عصره، فنظم قصيدة طويلة لا يحفظها إلا الجن، وحفر أبياتها على حجر ثقيل، ما زلت أذكر منها بيتاً واحداً، وكم أتمنى الحصول عليها في غربتي، بعد أن احترقت مكتبتي في لبنان، أثناء الحرب اللعينة:
فقلت وَصْوَص وصوصٌ
فجاء صوتٌ من علِ
فأخذ بثأر جميع الشعراء المهزومين، وراح يوزّع عليهم ما حصده من ثروة، أبى الأمير البخيل إلا أن تؤخذ منه قسراً.
ـ6ـ
ذكرت كل هذا لأثبت أن الشاعر، مهما اندحر الشعر وتقوقع، سيبقى بوصلة زمانه، أنّى اتجه تتجه الأعين، وكيفما مال تشرئب الأعناق. إنه إبن الوحي. شعره، لا يستمده من المدرسة، كباقي الفنون، بل من الموهبة التي تأتيه هبة من الله، لذلك تبقى كلمته مسموعة، وصوره الشعرية مشعة، ورحلته مع الأدب موفقة. فإذا هز الشاعر القديم أبدان أعداء قبيلته بأبياته الشعرية، نجد أن الشاعر الحديث ما زال يهز الأحداث بهدير انفعاله، وها هي ثورة الحجارة في فلسطين تحصد آلاف القصائد، وها هي نكسة حزيران 1967، تلهب مخيلات الشعراء، فينشدون رغم الهزيمة:
الغضب الساطع آتٍ.
ويمنون النفس بحمل بندقية، وإن كانت مغشوشة، وتطلق رصاصها إلى الخلف:
أصبح عندي الآن بندقية
إلى فلسطين خذوني معكم
كما أن ثورة الجزائر، حصدت الكثير من القصائد الحماسية، التي ساهمت بشكل من الأشكال بحصول الجزائر على استقلالها. وهناك أمثلة عالمية كثيرة، على فاعلية الشعراء أثناء الأحداث الجسام، لا مجال لذكرها الآن.
صحيح أن الشعراء، كما قال الشاعر الألماني هولدرلين، مثل كهان ديونيزوس يهيمون على وجوههم من بلد إلى بلد في الليلة المقدسة، ولكن بصماتهم ستبقى مطبوعة على وجه كل بلد يحطون الرحال به، فيزينون ليلتهم تلك بقناديل إبداعهم، وبثمار عطاءاتهم، التي ستقطفها الأجيال لتتذوق طعمها، وتتنعم بها، ولو بعد غروب.
ـ7ـ
قبيلة الشاعر، في يومنا هذا، ضيعة كونية صغيرة، كل ما يقلقها يقلقه، لذلك ازدادت أهميته، وكثر قراؤه، وتنامت شعبيته، وما عليه سوى التفتيش عن موقع إلكتروني يلجأ إليه لنشر ما وهبه الأرق من قصائد، قد تقرأ وتتناقل، وقد يقفز الفأر الإلكتروني فوقها ويتخطاها، لتنزوي بعد ذلك في أرشيف الموقع، أو في دفتر أشعاره، غير عابىء بمديح قومه، ولا بعطاء أمير فاسد بخيل، همه الوحيد أن ينزف على الورق ما يتأجج بداخله من أشعار، قد تهلكه كما أهلكت معلمه المتنبي، أو قد تغنيه كما أغنت زميله الأصمعي.