الدبلوماسيّ الشاعر

    في إِحدى زياراتي المتكرِّرة لمدينة مالبورن ، دعتني الأديبــة نجاة فخري مرسي إلى لقاء تعارف في منزلها العامر . ولسوء حظّي ، فلقد كانت المرّة الأولى التي أَلتقي بها وبزوجها الدكتور أَنيس مرسي ، صاحب الأَيادي البيضاء .
   وما أَن وطأَت قدماي عتبة الدار ، كما يقولون ، حتى فوجئتُ بوجود العديد من الشَّخصيَّات الدبلوماسيَّة والأدبيَّة وأساتذة الجامعات ، وفي مقدَّمتهم سعادة قنصل لبنان العــام السابق أو الأسبق في مقاطعة فيكتوريا الشاعر مصطفى مصطفى . وأعتقد أنّك ستعرف ، عزيزي القارىء ، لماذا أضفيتُ لقبَ شاعر على سعادته ، متى انتهيتَ من قراءة هذه الحادثة الطَّريفة .
   كان كلُّ شيء جاهزاً في منزل آل مرسي الكرام : النخبة المدعوَّة والضيَّافة العربيّة التي اصطحبناها معنا إِلى أَقاصي الدّنيا . ولكنّي شعرت باتفاقٍ غريبٍ بين كافة المدعوّين ، لاستدراجي إلى قَوْلِ الشِّعر ، إذ صاحوا بصوت واحدٍ وبدون أَيّ مقدَّماتٍ : هاتِ أَسْمِعنا قصيدة " لعنة اللـه علينا " .
   والحقّ الحقّ أقول لكم ، إنّ التحدّي الّذي كنتُ أنتظره من الشَّرق قد أتاني من الغرب ، فلقد انتفض سعادة القنصل ، إثر انتهائي من إلقاء القصيدة ، وارتجل ردَّةً زجليَّةً عرمرميَّةً ، هذا نصُّها :
سْمعنا شعر .. رح قُولْ يا عيْنِـي
متل الورد مزروع بجْنَيْنِه
مأَكَّد كلامَك مستواه كْبيرْ
ما دام إٍسْمك : شربل بعيـني
   وبِما أَنَّ من عادة الشُّعراء ، في بلادي ، أن لا يتركوا "ردَّةً " كهذه تَمُرُّ دون إجابةٍ ، تمتمت في نفسي والعرق يتصبَّبُ من جبينـي : علقت يا شربل .. أنّك أمام شاعر كبير .
   ولكي أتخلَّصَ من الإجابة الفوريَّةِ ، كما هي العادة أيضاً ، بَدأتُ " بالتَّنْكِيتِ " والإطْراءِ ووو .. إِلَى انتهاء السّهرة .
   وفي صباح اليوم التّالي ، وَقُبَيلَ صياح الدّيك ، بدأَ الإلهام يأتيني ، فَطَلَبْت من إبن عمّي حَنّا " توصيلي " حالاً إلى القنصليّة اللبنانية في مالبورن ، فَشَهَقَ وصاح :
ـ هل جُننت يا شربل .. لم يُجَهجِه الضؤ بعد !!
ـ أرجوك يا حنّا .. أريد أن أقول شيئاً للقنصل .
ـ لاحِق .. بعد بَكّير .
ـ أرجوك ، القنصل غلبني البارحة ، أمّا الآن فَأنا جاهز .
ـ إذا كانت القضيّة هكذا .. عَليهم .
 وَكعادته مع كل الناس ، إستقبلني سعادته بالتّرحاب ،    
فبادرته قائلاً :
سْمعتْ شِعرَك .. قلت هَيْدا الْمُصطفى
قنصل بلادي الطَّاهره ، ورمز الْوَفَا
يا مصطفى .. الغيَّاب فيك تْأهّلوا
شِيل الْجفا مْنِ قْلوبُن وْحطّ الصَّفا
ولا تْخاف .. مُرّ العيش آخرتو حلو
وعقول كلّ النّاس إنت بْتعرفا
خَلّيك بدر الحقّ ، شامخ بالعُلُو
ولولا عليك تْطاولوا نجوم السَّما
وِحْياة عَيْنَك بالقصايِد بِنْسِفَا
   وَهُنا ، بانَ اللإعجابُ الشّديدُ على وجه منافسي الحبيب ، فشعرتُ بأنَّ جبالاً من الهموم قد أزيحت عن صدري ، خاصّة حين بَدَأَ سعادته بالإستفسار عن صحّة الصَّديق بطرس عنداري ، وكيف التقاهُ لأوَّلِ مرَّة ، مُتجنّباً الخوضَ ، تماماً ، في بحور الشّعر العميقة .
   وبعد شهرين ونيِّف ، من مبارزتي الأولى ، استلمت رسالة من سعادته ، ضمَّنها الوفاء وبعض الأبيات الشّعريّة " الماكنة " .. وكأنّي به يدعوني إلى مبارزة شعرية ثانيّة تُنسيني الأولى ، فصرخت :
ـ أنا مُشْ قَدّو .. أنا مُشْ قَدّو
   فسألتني أمّي :
ـ شُو باك يا شربل ؟
ـ قنصلنا بمالبورن شاعر كبير
ـ أللـه يحميه .. قريلي شو كاتب .
   فبدأت أقرأ لها بصوت عالٍ :
أربع مرّات كْتابَكْ
قْريتو قدّام صْحابَكْ
واحد قللّي : شو صابَكْ
الشّعر وضعتو بمحرابَكْ
فيّي  أعرف شو انْتابَكْ
وْللشعر فتحت بْوابَكْ ؟!!
ردَّيت وِلْشربِل قلتْ :
يِرْحَم بطن اللي جابَكْ !
   فصاحت أمّي مذعورةً :
ـ سلامة قلبي ألف مرَّة .. بَعدي صبيّة .
   فسألتها متعجِّباً :
ـ شُو بِكي .. خُوَّفْتيني ؟!
ـ القنصل افتكرني متّ ..
ـ يا أمي .. قنصلنا ما قال يرحم أمك .. قال : يرحم بطن اللي جابَكْ .. والظّاهر عارف إنّو بَيّي ماتْ !!  
   فَسَألتني والدَّهشة تعلو وجهها :
ـ وشو دخل بَيَّك ببطني ؟!
   فأجبتها ضاحكاً :
يا أمّي .. القنصُل مهضومْ
وْما بْيِحْكي غير المعلومْ
الظَّاهِر عارِف " بطنِك " ماتْ
مِن وَقْتِ الْـ مات الْمَرْحُومْ