دون كيشوت

   كان صوته يملأ أحد شوارع (بانشبول)، ويداه تدوران في الهواء كطواحين (دون كيشوت) الشهيرة:
ـ خلّوها تذهب.. عمرها ما ترجع..
   فخرج أبناء الحي مهرولين من منازلهم ليستطلعوا حقيقة ما يجري، فصاح بهم:
ـ لا أريدكم أن تتدخّلوا بيني وبين زوجتي.. أريد أن أربّيَها..
ـ ربِّها.. ربِّها.. ماذا تنتظر؟
   صاحت إحدى النساء المغتربات، وهي تفرك يديها بعصبيّة ظاهرة، وعيناها تحدّقان بدون كيشوت الشارع.
ـ كيف بإمكاني أن أربّيها، وكل القوانين ضدّي. ستحرمني من رؤية بناتي الخمس.
ـ أنت لست خائفاً عليها، بل على بناتك؟
ـ يا أختي.. حريّة هذه البلاد أعمت قلبها. فلقد طبعت على شفتيها عبارة (فري كنتري)، وأبت أن تسمعني غيرها.
ـ أنتم الرجال لا يُستخفّ بكم.. قدر الحملة وبزيادة أيضاً!
ـ واللـه، واللـه، إن الرجل في هذه البلاد بدون قيمة.. ما هو سوى صرصور يدبّ على الأرض.
ـ نحن النساء نعرف كيف نربّي أطفالنا. يوجد عندنا من الحنان أطنان الأطنان، والظاهر أن القانون الأسترالي يحفظ هذه الأشياء عن ظهر قلبه.
ـ أرجوك أن تتوقّفي عن (القطش والشلح)، ثرثرتك مزعجة.. ثـم أنت تعرفين جيّداً أن شارعنا هذا لا يسكنه سوى اللبنانيين، وأن جميع رجال الحي يلبسون (الوزرات)، ويقومون بأعمال الطبخ والجلي والكناسة وتحفيض الصغار، ونساؤهم لا يرجعن إلى بيوتهن إلاّ في ساعات متأخّرة من الليل.
ـ عيب تحكي هكذا.. إلحق زوجتك يا مسكين، فقد تخسر بناتك!
ـ أريد أن أربّيها., خلّوها تذهب..
ـ إذا راحت زوجتك لعند أمّها.. أنصحك بتوقيف محامٍ.
ـ وسأربّي حماتي أيضاً..
ـ إلحقها.. عجّل.. صحيح أنّك بلا عقل..
ـ أريد.. أريد..
ـ تريد ماذا؟!
ـ أريد أولادي.. أريد زوجتي.. قولوا لها إنّي أحبّها، وأعبد الأرض التي تدوس عليها.
   عندئذ، اعترض بعض سكّان الحي سيّارة الزوجة، فأوقفوها وأنزلوها منها مع بناتها، وأعادوهن إلى بيتهنّ، وسط زغاريد مزعجة، كأنها صفّارات سيّارات البوليس والإسعاف، التي ألفوها في شارعهم.