كثيرا ما نسمع الكاهن في الجنانيز يقول: أنتم مدعوون الى تناول لقمة الرحمة مع أهل الفقيد أو الفقيدة.
وكثيراً ما نشارك في تناول تلك اللقمة التي هي أقرب ما تكون إلى وليمة فخمة كلّفت أصحابها آلاف الدولارات، نظراً لكثرة المأكولات والمشروبات والأطايب التي تفنّنوا بعرضها على طاولة أين منها طاولات الملوك والأمراء والميسورين.
وكثيراً ما يبقى الأكل بوجه أهل الميت، أي أن المشاركين في الجنازة فضّلوا الذهاب الى بيوتهم وتناول الطعام مع أطفالهم، أو في أقرب مطعم للوجبات السريعة، على أن يتناولوا لقمة واحدة مع اهل الفقيد.
وهذا ما رأيته بأم عيني، فلقد توجهت، ذات يوم، الى القاعة المعدة لتناول لقمة الرحمة، فوجدت من الخيرات ما يطعم ألف نسمة، ولكني لم أجد في القاعة أكثر من ثلاثين شخصاً لا غير.. أي أن الآلاف من الدولارات التي صُرفت ستذهب الى سلاّت المهملات وليس الى بطون الناس.
والمضحك المبكي في الحكاية أن الشركة التي أعدت الطعام رفضت أن تعيده الى مطبخها، رغم استلامها المبلغ كاملاً، لأن لا مكان لديها لفضلات كثيرة كهذه.. فراحت إحدى النساء توزّعه على الموجودين قسراً، أي أنها أجبرتني على حمل عدة أكياس من الطعام دون أن تسمع اعتراضي أو احتجاج بعض المساكين الذين تواجدوا هناك.
وكثيراً جداً ما تتحوّل لقمة الرحمة الى لقمة النقمة، كما حدث في جنازة إحدى الصديقات المقرّبات، إذ لم تكتفِ إبنتها بالطعام الذي أعدته شركة المأكولات بل اصطحبت معها طبقاً من الأرز كانت قد أعدته المرحومة قبل وفاتها ولم تتنعّم بتذوّقه، فراحت الابنة تضع ملعقة في فم كل من تختاره وهي تولول: دوق أكل أمي شو طيّب!.
والظاهر أنها نسيت أن تضع ملعقة في فم عمّتها، وكانت على خلاف معها، فوقفت العمة في وسط القاعة وصاحت: يا واطية.. يا منحطّة.. أطعمت الكلّ وتجاهلتني.. ألهذه الدرجة تكرهين عمتك؟
وما أن أنهت عبارتها هذه حتى انقضّت على ابنة أخيها وراحت تشبعها لطماً وعضاً وحلش شعر الى آخر المعزوفة. ولن أخبركم ماذا حصل بعدها كي لا أشككم في محبة أقربائكم.
قصيدة عن "لقمة الرحمة" قرأتها للشاعر عصام ملكي وفيها يخبرنا أن الناس في قديم الأزمان كانوا يأتون على الدواب من قرية لبنانية لأخرى بغية المشاركة في وداع قريب أو صديق، وكان من الواجب على أهل القرية، وليس أهل الفقيد كما هو متبّع اليوم، تحضير الطعام لإشباع الضيوف، فلا مطاعم وجبات سريعة، كالتي نراها الآن على كل زاوية شارع، ولا سيارات فاخرة تنقلهم من مكان لآخر، وكانت نخوة أبناء القرية تظهر جلية في المآتم، كي لا يتحمّل المحزون، ولو كان غنياً، عبء مصابه لوحده.
سؤال لا بد من طرحه: لماذا لا نستبدل لقمة الرحمة بلقمة الحسنة؟.. أي بدلاً من أن نرمي الأكل في سلات القمامة، كما يحصل دائماً، نوزّع ثمنه على منظمات خيرية أو طبيّة أو ما شابه، فيأكل اليتيم والفقير، وتتزايد الأبحاث العلمية التي تساعد في تخفيف آلامنا، عندها يقول قائل: رحم الله من كان السبب.
وعندها أيضاً نقول قول السيّد المسيح: لا أريد ذبيحة بل أريد رحمة.. ورحمته لن تتمّ ما لم نرحم الفقير واليتيم، ونخفف أوجاع المرضى. فتعالوا نحوّل روائح فضلات الأطعمة إلى روائح ورود إنسانية ذكية.. يتنعّم بأريجها ابن الانسان في كل مكان وزمان.
رحم الله موتاكم.. وأعطاكم مما سوف تعطون: السعادة والصحة.